من يَـخشى التّصعيد ..؟ بقلم : الدكتورة بثينة شعبان – رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القدس الدولية (سورية)

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

 

 

– بعد الإجماع الشعبي العربي الذي عبّر عنه أصحاب الضمائر الحرّة الشرفاء من أبناء الضاد من المغرب إلى العراق، للقضية الفلسطينية، وحقوق الشعب العربيّ الفلسطيني في أرضه وتاريخه؛ بدأ الإعلام الصهيوني باختلاق موجة ادّعاء أنه يشعر بها من خشيته من التصعيد في مخيّم جنين، متّهماً الأبطال المدافعين عن وجودهم وانتمائهم بالإرهاب، ومصوّراً المخيّم وكأنّه يمتلك أسلحة تفوق أسلحة المحتلين والمستوطنين العنصريين، ربّما كان دافعه في فعل ذلك هو تغطية الجرائم البشعة التي يرتكبها هذا الاحتلال من إعدامات يومية للشباب الفلسطيني المدافع عن حقّه، والتي دفعت بالمجتمع الدولي المتواطئ عادةً بصمته مع جرائم الاحتلال، إلى التعبير عن هلعه من دموية العنصريين الصهاينة؛ إذ اضطرّ الاتحاد الأوروبي إلى إصدار بيان مقتضب يعلن فيه أن قتل الاحتلال 10 فلسطينيين خلال 72 ساعة يعكس استخدام ” قوى الأمن الإسرائيلية “ القوّة المميتة، وهو ما يخالف مبادئ القانون الدولي، وأنّ هذا العام هو الأكثر دموية منذ عام 2006م.

– ولعلّ أهمّ هذه الرّدود، تغريدة مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط تور وينسلاند، أن حادث القتل الذي أصابه بالهلع، قد دفع بالفكر الصهيونيّ للتركيز على خوفه من مخيم جنين، واتهامه من يدافعون عن أهلهم وبيوتهم وتاريخهم بالإرهاب، وأيضاً من أهمّ هذه الرّدود ما أعلنه الرئيس الصيني أثناء زيارته للشرق الأوسط، والقمم الثلاث التي حضرها بأنّه « لا يمكن أن يستمرّ الظلم التاريخيّ الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني إلى أجل غير مسمّى » .

– وفي هذا الإطار علينا أن نأخذ الثقافة الإعلامية التاريخية للاحتلال بعين الاعتبار؛ وهي ثقافة قامت على الادعاء بالمظلومية والتباكي وادّعاء الخوف من الآخر والتظاهر بالضعف، في حين تُوقع أشدّ أنواع العذاب وتتّخذ أقسى الإجراءات للقضاء على السكان الأصليين، أو تهجّرهم ، وتسطو على ” ممتلكاتهم وتاريخهم وحضارتهم “ .

– لكن هذا لا يقلّل أبداً من التضحيات الجِسام والبطولات التي يعبّر عنها أبناء الشعب الفلسطيني البطل، حمايةً لأرضهم وأهلهم ومقدّساتهم وتاريخهم، وخاصّة أنّ ثقافة المقاومة تقوم على الأنفة والتعالي على الجراح وعدم الاستكانة للآلام أو التقصير في تقديم التضحيات.

– من هنا، فإن الخطاب الإعلاميّ المقاوم، سواء أكان فلسطينياً أم عربياً، يجب أن يلحظَ هذا الخيط الرفيع بين تضخيم العدوّ من شعوره بالقلق استجداءً للتعاطف، وتشويهاً لميزان القوى القائم، وتغطيةً على جرائمه البشعة التي يرتكبها بحقّ أصحاب الحقّ الأبرياء، وبين وقع هذه البطولات والتضحيات على تغيير المعادلة القائمة ميدانياً أو سياسياً أو إعلامياً، وألّا ننتعش بأكاذيب العدوّ التي يقصد منها أحياناً التغطية على جرائمه، وقطع أي صلة لتعاطف المجتمع الدولي مع معاناة وحقوق شعب فلسطين .

– ذلك لأن الاهتمام الذي يوليه العدوّ الصهيونيّ للإعلام، ولنوع السردية المستخدمة، ولأثر هذه السردية على أذهان الآخرين، خاصة في الغرب، يفوق بعشرات المرات الاهتمام والمتابعة الإعلامية العربية ونشاطها في هذه المجالات، وعلى سبيل المثال لا الحصر .

– فقد سارع مسؤولون في الكيان إلى إدانة فيلم نشرته «نت فليكس»، يصف قتل عائلة فلسطينية على أيدي القوات الصهيونية في عام 1948م، بأنّه « يخلق سردية كاذبة » ، في حين ينشرون هم آلاف الأفلام والسرديات الكاذبة في العالم، من دون أن تلقى تكذيباً أو تفنيداً، وما فعله فيلم « فرحة » هو أنه أضاء على جزء بسيط وأنموذج واحد من آلاف نماذج الجرائم التي ارتكبها هذا العدوّ بحقّ الشعب الفلسطيني.

– وأنا أكتب عن فلسطين يلحّ على ذاكرتي، أنموذج آخر مشابه تماماً، ألا وهو السرديات المتبادلة اليوم بين روسيا والصين من جهة، وبين أوكرانيا والغرب من جهة ثانية، حول مجريات الأحداث سواء في أوكرانيا أو في تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، ففي الوقت الذي اعترفت فيه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل ، وكانت هي صاحبة القرار في ألمانيا “ ، أن الغرب لم ينفّذ اتفاقات مينسك بشأن أوكرانيا، وهذا ما كرّره المسؤولون الروس وطالبوا أوكرانيا والغرب بتنفيذه، وفي الوقت الذي يخصّص الغرب مئات المليارات لتغذية الحرب في أوكرانيا، يتّخذ هذا الغرب في الوقت ذاته القرارات باتّهام روسيا بارتكاب مجازر، وينشئ المحاكم لمحاكمة روسيا، ولكن وبالأرقام، فإن ميزانية الدفاع الأميركية التي تمّ إعلانها بلغت 880 مليار دولار، بزيادة تُقدّر بمئة مليار دولار عن العام الماضي، ولا حاجة للشرح، لأن الوجهة المستجدّة للزيادة هي أوكرانيا.

– أي إن الأسلوب المتبع من قبل أصحاب القرار في الغرب، ومن قبل حكّام الكيان، هو ذاته، ألا وهو التغطية على ما يقومون به من خلال اتهام الآخرين بارتكاب ما اقترفته أيديهم، والتركيز على ما يشاؤون لخلق انطباع لدى الرأي العام لا صلة له بالواقع المعاش، وهم يؤمنون إيماناً جازماً أن الأهمّ هو الانطباع الذي تخلقه السردية في نفوس الآخرين وليس الحقيقة، وهذا هو المفصل الأهمّ الذي يفصل بين الثقافة الإعلامية والسياسية الغربية من جهة، وبين نظيرتها في الشرق من جهة أخرى.

– لا بدّ في هذه المرحلة الحساسة، ” التي تتلاطم بها أمواج التغييرات العالمية “ من الانتباه إلى هذا الفرق المهم والمؤثر في آن؛ كي نركّز على السردية التي بالفعل تخدم أهدافنا، وتنطلق من واقعنا، بدلاً من أن نرضي غرورنا بالسرديات التي ينسجها الآخرون، خدمةً لأهدافهم، وفي الوقت ذاته تقويضاً غير مباشر ومدروس لما نريد نحن تحقيقه.

– في السياق ذاته، ولكن وعلى مستوى أكبر، وفي الوقت الذي زار فيه الرئيس الصيني الشرق الأوسط، وشارك بقمم ثلاث، ” كما شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو باجتماع دول أوراسيا، ووزراء دفاع منظمة شنغهاي “ ، فإن دارسي الإستراتيجيات في الغرب يفكّرون ويخطّطون لصيغ مفهوماتية ولتغييرات معرفية وسرديات مبتكرة تُلبس الهيمنة الغربية لبوساً جديدة، وتجعلها مقبولة وحتى مرغوبة لدى الآخرين.

– لا شكّ أن الرئيس بوتين محقّ جداً حين صرّح أكثر من مرّة أن هدف الغرب هو الحفاظ على هيمنته ، ولا شكّ أنه محقّ، والرئيس الصيني بالسعي لخلق تحالفات تجعل من هذه الدول أعضاء في كتل إقليمية اقتصادية وسياسية وعسكرية؛ لأنّها الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها مقاومة التكتّلات والتحالفات الغربية التي نضجت وتطوّرت على مدى عقود ماضية .

– ولكنّ السؤال : هو كيف يريد الغرب الحفاظ على هيمنته ..؟

– بالإضافة إلى ميزانيات الدفاع الضخمة، وعدم الإنصات لمعاناة شعوبهم، فإن الهدف الإستراتيجي الذي وضعوه اليوم هو عدم السماح للصين وروسيا أن تصبحا منافسين حقيقيين للغرب، ومن أجل ذلك يقترح المنظّرون الغربيون أن اعتبارات توازن القوى وليس القيم الديمقراطية يجب أن تكون الأساس في بناء التحالفات لاحتواء طموحات الصين الإقليمية، وقد اكتشفوا في هذا السياق أن تقسيم العالم إلى ديمقراطي وديكتاتوري لم يعد مفيداً، بل بات يأتي بنتائج عكسية لأن هذا الفرز يُبعد عدداً من الحلفاء الإستراتيجيين الذين لا يُشاطرون الغرب مفاهيمه عن حقوق الإنسان ..!

– من ضمن البنود طبعاً التفوّق العسكريّ والتقني والسيطرة على الطاقة، والتحالفات البراغماتية الجديدة من أجل نظام عالمي مؤسساتي واقعي ضمن خطة واقعية مفهوماتية شاملة، هدفها الأساس التصدّي لصعود الصين، ومنع روسيا من تشكيل تحالفات قوية في الوسط الأوراسي، ولقد حان الوقت، ومنذ زمن، أن يركّز الطامحون لعالم متعدّد الأقطاب، والمؤيدون لحقّ الشعوب في الحرية والكرامة، أن ينطلقوا من أهداف سرديات الآخرين وطريقة صياغة إستراتيجياتهم ومنهجيتهم ولغتهم لكي تكون الخطوات المتّخذة واللغة المستخدمة قادرة على خدمة القضية النبيلة التي نحن بصدد خدمتها.

– إن من يخشى التصعيد في فلسطين هم الفلسطينيون، ومن يصبّ الزيت على النار في أوكرانيا وتايوان هم ” الغربيون “ ، ومن يحاول إيجاد عالم متعاون بعلاقات سليمة ونديّة هما ” الصين وروسيا “ .

– فهل نمسك بالثوابت والحقائق التي برهنها التاريخ مرّات لا تُحصى، ونصمّ آذاننا عن كلّ ما يستهدف مصيرنا ووجودنا ، مغلّفاً بسرديات أثبتت أنها تطمح فقط إلى استمرار القبضة الغربية على مقدّرات العالم، ونهب ثروات الشعوب ، سواء من خلال الحروب ..؟

– أم أي وسيلة أخرى متاحة ..؟

– وهل يمكن أن نقتنع أن إحدى نقاط القوّة في الغرب ، والتي تساعده في استمرار هيمنته ، هي إيلاء الأهمية الكبيرة للفكر والمفكرين ، ومنتجي الأفكار الخلّاقة التي تتمّ ترجمتها خططاً ومن ثمّ واقعاً نحاول أن نتفوّق عليه من دون امتلاك أدواته الأساسية والضرورية ..؟