#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– كنت والشيخ محفوظ نحناح في القاهرة في صيف 2000 وبعد ان أدينا صلاتنا ذات مغرب في مسجد الحسين خرجنا نتفحص الأزقة بالقرب منه وإذا بالشيخ يجهش بالبكاء سألته خير يا شيخ فقال لي: انظر يا أخي ما فعل أجدادنا الجزائريون كيف بنوا القاهرة انظر إلى هذه المباني الفاطمية منذ ألف سنة.. أمر يلفت إلى ترابط بلداننا مشرقا ومغربا وتداخل فعلنا الحضاري والثقافي ولهذا أهمية قصوى في رؤية صيرورتنا الحضارية.. قلاعنا مقاومة للمستعمرين والتغريب و الإستشراق قاومت في أسوأ الظروف مستندة إلى اعتدال ووسطية و انفتاح ولقد كان الأزهر الشريف الذي مثل مرجعية دينية وثقافية خلال عدة قرون للأمة نموذجا حضاريا استطاع أن يفلت رغم ما علق به من خدوش من معاول الهدم التي طالت كل شيء في بنياننا الحضاري .. في هذا الحيز أسلط الضوء على هذا المعقل الكبير وكيف يمكننا إعادة الاعتبار لمراكزنا الثقافية وإعطائها دورها المرتقب في بعثنا الحضاري.
– طبيعة الأزهر:
– تميز الأزهر الشريف من بين معاقل التنوير والعلم في الأمة بخصائص تجعل منه متفردا وتمكنه من تبوؤ الصدارة والمرجعية العليا ولعل ذلك يتضح من خلال سيرته الطويلة عبر عشرة قرون، ورغم أنه لا يتدخل في الشأن السياسي التفصيلي إلا أن له حاسية حاضرة ضد أي عدوان خارجي على الأمة وضد أي شطط يصيب الحاكم ولكن ذلك كله دونما افتعال لمعارك تجر على البلاد الخسران والهلاك.. فهو لا يصدر عنفا ولا يشيطن الآخر ولكنه يدافع عن قيم الإسلام السمحة ويدحض الافتراءات ولا يتوانى عن ذلك ويتصدى للمستشرقين المخربين للثقافة الإسلامية المشككين فيها والمروجين للفتن، وهو لا يفتعل معركة مع حاكم بل يقف بالقرب منه ولا يبتعد عنه الا بمقدار ابتعاده عن الثابت في الإسلام و مصلحة الناس، و في كل الأحوال ظل الأزهر بعلمائه وشيوخه الكبار نزيها نظيفا لم يسجل عليه أي فساد مالي أو أخلاقي أو ارتباط بعدو او بقوى خارجية الأمر الذي حصنه أمام الجميع.. وهذا لم يتسن إلا للأزهر الشريف فأصبح بحق مرجعية الأمة الإسلامية ونبراسها الوضاء الأكثر طهارة.
– مرت على الأزهر مراحل لم يتمتع فيها جميعا بالأريحية والسلاسة فهناك مراحل عانى فيها الأزهر من العدو الخارجي وفي أخرى عانى من الفوضويين المحليين من حكام متفرعنين أو طبقات ثقافية او اجتماعية وجدت فيه مهددا لنفوذهم وكان لمثل هذه المراحل الدور الكبير في إبراز قيمة الأزهر متميزا عن كل المؤسسات الدينية الكبيرة في العالم الإسلامي فلقد اقترب الأزهر من الحاكم بمقدار ما اقترب الحاكم منه وعندما يشط الحاكم او يتنطع يكون الأزهر له بالمرصاد ولا يجد في الأزهر إلا الجفاء، ومع هذا فان الأزهر لا يختلق الأزمات ولا يحرض على فتنة ولا ينحاز إلى فئة إنما ظل دوما معبرا عن الضمير الجمعي بشفافية وحضور قوي.
ومن العصور الزاهية للأزهر الشريف يعد العصر المملوكي الذي تسابق حكام المماليك فيه بالاهتمام بالأزهر طلابًا وشيوخًا وعمارةً وتوسعوا في الإنفاق عليه والإضافة إلى بنيته المعمارية.. و في العصر العثماني أبدى سلاطين آل عثمان احتراما كبيرا للمسجد وأهله بالرغم من وقوفه مع المماليك خلال حربهم ضد العثمانيين بمعنى أنه ظل دوما ضد أي ولاء خارجي وهذا أمر يحسب للأزهر، عكس ما اقترفه كبار علماء النجف بولائهم الخارجي سواء للجوار أو الأجنبي كما حصل أثناء العدوان على العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد أصبح الجامع المكان الأفضل لدى عموم المصريين الذين يرون فيه مرجعيتهم الدينية صاحبة الفتيا في أي عدوان خارجي حتى أن عبدالناصر في 1956 إبان العدوان الثلاثي لم يجد إلا الأزهر ليخطب من على منبره داعيا للتصدي والمقاومة فكان لذلك وقع خاص وهرع إليه أبناء المصريين لتلقي العلوم والتفقه في الدين كما أنه أصبح مركزا لتجمع علماء مصر وكبرائهم كما بدأ في تدريس بعض علوم الفلسفة والمنطق لأول مرة.. وامتد التعليم فيه ليشمل الطب والهندسة وشتى مجالات العلوم المعاصرة.. ولم يقتصر الأمر على المصريين فلقد كان الأزهر موئلا لأبناء الأمة العرب والمسلمين من كل مكان يتلقون فيه العلوم ويعودون الى ديارهم قادة مجتمع ورواد نهضة.. وكان فخرا كبيرا للبلدة او القرية أو المدينة من بلاد العرب والمسلمين أن يحصل أحد أبنائها على شهادة العالمية الأزهرية آو أي تحصيل علمي أزهري وكان دوما يشار إلى الأزهري بالاحترام فهو حامل الفقه وممثل الإسلام في حس الناس و لا يغيب عن بال كاتب المقال كيف كان لشيوخ الأزهر في مخيمه من دور في التخفيف عن الناس و تحريضهم على المزيد من التمسك بأخلاقهم الكريمة.
– الأزهر والتحديات :
– في كتابه الرائع ذكر الكاتب الصحفي جلال كشك كيف دخلت خيل الفرنسيين الأزهر تخب في دماء الشهداء من تلامذته وشيوخه بعد أن أعلن المقاومة بكل أشكالها ضد المستعمر الفرنسي فلقد كان الأزهر مركزا للمقاومة وفى رحابه خطط علماؤه لثورة القاهرة الأولى وتنادوا إليها من كل ربوع مصر، وتحملوا تبعاتها والتي كان أفدحها امتهان حرمته من قبل الغزاة، وبعد ثورة القاهرة الثانية كان كبار علماء الأزهر هم من يتعرضون لأقسى أنواع العقاب والمعاناة، فلقد فرضت عليهم الغرامات الفادحة، و اضطروا لبيع كل شيء من ممتلكاتهم وحلي نسائهم لاستيفاء ما فرض عليهم من غرامات، وبعد قيام الأزهري سليمان الحلبي بقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية تعرض الأزهر لعقاب جماعي طال العديد من طلبته.. وانتهت المواجهات العنيفة بين الأزهر والغزاة إلى اعتقال شيخ الأزهر الإمام عبدالله الشرقاوي واستمرت المواجهة بين الأزهر والاستعمار الفرنسي حتى انهزمت الحملة ولم تمكث في مصر إلا سنوات معدودة.
– وبعد انسحاب الفرنسيين من البلاد عيّن محمد علي باشا نفسه والياً على مصر، وسعى إلى توطيد حكمه من خلال التقرّب إلى علماء الأزهر، وسار على نهجه أبناؤه وأحفاده، والذين كان آخرهم الملك فاروق، إلى حد ما وكان لبعضهم كالخديو توفيق موقفا سلبيا والذي طالب الأزهر بعزله لتعاونه مع المستعمر الانجليزي.
لقد عانى الأزهر مع تبدل الحكومات وكانت مرحلة ثورة يوليو تحديا خطيرا للأزهر حيث وجدوا فيه مركز قوة اجتماعية من الصعب تجاوزه وهذا من شأنه تعطيل “المسيرة الثورية” لمجموعة الضباط الأحرار، يقول الأستاذ الدكتور علي جمعة: “فى سنة 1959 أراد الرئيس جمال عبدالناصر إلغاء الأزهر وكان صديقه أحمد سوكارنو-أول رؤساء اندونيسيا- فقال له إنه يريد أن يلغى الأزهر فقال له أحمد سوكارنو: أننا لا نعرفكم بدون الأزهر، هذا لا يصح أن تقوم به بل يجب عليك أن تؤيد وتطور الأزهر الشريف،” وبالفعل قام الرئيس جمال عبدالناصر بإنشاء قانون 103 سنة 1961 لتطوير الأزهر الشريف.” وفي عام 1961 ووفقاً للقانون الصادر في نفس العام تمّ إعلان قيام جامعة الأزهر رسمياً وإنشاء العديد من الكليات.. ولكنه حرم الازهر من التصرف في اوقافه واصبح الى حد ما يتدخل في تعيين شيخ الازهر الا ان هذا القانون تم تعديله بحيث اصبح الموضوع كله مادة في الدستور المصري ناصا على ان الشيخ يتم اختياره من قبل هيئة كبار العلماء.
– والواقع أن الأزهر الشريف وكما قالت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” أثناء زيارتها له – “أعلى مرجعية سنية في العالم، وصوت الأزهر في غاية الأهمية لأنه صوت مسموع في كل العالم” وعندما نقول سنية نقصد المسلمين جميعا لأن السنة يزيدون عن 90 بالمائة منهم. ومن ثم، فان لموقف الأزهر من قضايا المسلمين مبررات منطقية وأخلاقية بل وقضايا الإنسانية جمعاء ذات الطابع الإنساني، ومن هنا تأتي مواقفه من عديد القضايا لاسيما قضايا الوطن العربي والمسلمين وفلسطين على رأسها وكما هو حاصل في أكثر من مكان وهذا ما يرتفع بالأزهر إلى مكانته الإنسانية وحسنا فعل الأزهر عندما نأى بنفسه عن اللغة الطائفية وجعل من نفسه حضنا لكل المذاهب الإسلامية وفتح أبوابه للمفكرين الغربيين حوارا ونقاشا واحتراما كما فتح باب التبرع للمعذبين من المسلمين في شتى أصقاع الأرض وأدان بقوة كل الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وبذلك يحدد الأزهر الشريف لنفسه رسالة إنسانية عالمية ويتحرك ضمن تصور إسلامي رشيد، تعززه فتاوى علمائه حول حرية الاعتقاد وحقوق المرأة ورفض افهام التعصب والتشدد، وتقديم معالجات فقهية معاصرة وفتاوى تكسر الجمود. ولا شك أن قيام الأزهر بهذا الدور بالإضافة إلى انه من مناط التكليف الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو كذلك ينزع من بعض الحكومات المتاجرة بقضايا المسلمين القضايا العادلة لأغراض سياسية.
أما فلسطين فكان للأزهر دوما موقف متقدم فلقد قام منذ نكبة فلسطين بإعداد المجاهدين ومعسكرات التدريب للمتطوعين والدفع بهم الى ساحات الجهاد دفاعا عن فلسطين وواصل وقوفه المستمر في عقد المؤتمرات والندوات والمواقف المستمرة دفاعا عن فلسطين ورفضا لكل أشكال التطبيع وتصديا للكيان الصهيوني والعدوان الأمريكي على العراق.
– الأزهر والوسطية :
– قاد الأزهر عملية المقاومة اليقظة ضد الطائفية والتعصب الطائفي و جنب المسلمين الانخراط في القضايا الخلافية وارتقى بمداركهم للتعلم والفهم وإدراك الثابت من المتغير وان مذاهب المسلمين جميعا يجوز بها التعبد وان الاختلاف في علم الكلام وسواه من أبواب العلم الشرعي لا يخرج أحدا من الملة وان الأصل في الناس جميعا الخير.. وتصدى الأزهر لمعاول الهدم المروجة لأفكار تسيء للإسلام وسماحته التي يطلقها من حين إلى آخر المستشرقون وأتباعهم في الوطن العربي وأصبح في هذا المجال الواقف في الخندق الأمامي.
وكان أصلب المتاريس التي تصدت لكل احتلال طمع في مصر، وفي الوطن العربي ومعقلا من أهم معاقل اللغة العربية، وقـُدِّر لهذا البنيان من اللحظة الأولى أن يكون دار علم وعبادة وسياسة معاً، وأن يضطلع بدور كبير فى إعادة تشكيل وعى المسلمين، وأن يكون جامعة استثنائية فى كل المنطقة. وقد تجنب الوقوع في إطار التبعية للحاكم او المستعمر او المهادنة لهما في حين رأينا بعض معاقل الدين الإسلامي في الأمة تنزلق إلى حيث مخططات العدو والسكوت عن جرائمه كما حصل من موقف النجف الاشرف بقيادة السيستاني ورهط من العلماء الشيعة الذين تعاونوا مع العدو الخارجي ضد البلد ودولتهم حيث لم يصدر لهم موقف بخصوص الإحتلال الأمريكي ولم يفتوا بوجوب مقاومته والتصدي له والدفاع عن الوطن كما انخرطوا بقوة في حروب طائفية دمرت مدنا ورحلت ملايين العراقيين.. كما أن الأزهر الشريف حرص تماما أن لا يناط الأمر بشخص شيخ الأزهر او الإمام الأكبر مهمة جمع أموال الزكاة والصدقات على حساب شخصه بخزانة شخصية يثري منه رجال الدين ووكلائهم ويتسلطون على عباد الله بأموالهم فيتهاونون في الإسلام وأركانه ويتشددون في جمع المال وهنا إشراقة أخرى للمؤسسة السنية الكبرى في مواجهة انتكاسه أخرى في تجميع المال باسم شخصيات دينية فيدخل الفساد على الدين كما يحصل مع مراجع دينية كبيرة تدير أموالا ضخمة في عواصم غربية، وظل شيوخ الأزهر العلماء الأفذاذ بتواضعهم وبقلة ما في اليد وانهماكهم في العلم يشيرون دوما بوضوح الى سبيل العلم الديني المتحرر من دنس المصالح والمكتسبات. وتفتح الأزهر بعلمائه على المدارس الثقافية والفلسفية العالمية وتوسع بكليات علمية في شتى المجالات فكان بجدارة صرح الثقافة العربية والإسلامية الراسخ بتراثها الخصب العريق، وإشعاعها الوسطي الأصيل محليا وإقليميا ودولياً.
– وتمتع الأزهر بروح وحدوية متسامحة مع أصحاب المذاهب الإسلامية وقرر في مناهجه تدريس المذاهب جميعا وارتقى الى جعلها جميعا دروبا للتعبد و فتح الباب لكل مجتهد فكانت اجتهادات شيوخه الكبار في مستوى التحديات المعاصرة ومثال على ذلك ما تميز به الإمام محمود شلتوت بفتاوى متقدمة على صعيد المرأة والبنوك والقروض والمال بشكل عام.
– رسم الأزهر خطوط السياسة الشرعية لجميع المواطنين ان عليهم الدفاع عن أوطانهم وعدم الانخراط في أجندات إقليمية أو دولية، وهو في هذا كرس حب الأوطان ورفض أن يتحول الدين غطاء للحزبية والتفريق بين الناس .
– نقترب من فهم رسالة الأزهر لنقول إن غياب المرجعيات والمراكز الثقافية الوسطية المتزنة المتبحرة في العلوم والمتفتحة على الآخر أورثنا تعصبا وجهلا تترجما في الواقع عنفا وبطشا .
– لذا فان أي محاولة لتقليل شأن هذه المرجعيات إنما هي وصفة للإنهيار الذاتي .
– والله غالب على أمره .