#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– بعد عقود من الإحتلال الغربي للبلاد الإسلامية والإشراف عليها وإدارة أمورها بصورة مباشرة، وبعد امتصاص ثرواتها ونهب خيراتها لعدة عقود بل قرون، وبعد تربية نخبة من التلاميذ في مدارسها وجامعاتها وتخريج جماعات من الخاضعين بالكامل فكرياً لإرادتها، رأت أن تسليم إدارة أجزاء من هذه البلاد للعملاء الأوفياء لها أفضل من البقاء محتلين بصورة مباشرة ودفع تكاليف باهظة في مواجهة الحركات التحررية الصادقة ضدها، وهنا كانت مؤامرة سايكس ـ بيكو حيث تمّ اقتطاع مناطق من دولة وإصافتها إلى دولة أخرى، بل وتأسيس دولة جديدة من خلال اقتطاع أراضٍ من أربع دول وتعيين ملك عليها استُقدم من بلد آخر، وأيضاً تنصيب ملكين على كل من سوريا والعراق ليسا من مواطني البلدين أصلاً بل هما من بقايا الأسرة الحاكمة السابقة لمملكة الحجاز.
ورضي المنصوبون حكاماً بالتقسيمات الإستعمارية تلك وتعاملوا مع ما تسلموا من الأسياد على أنها أوطان يجب بذل الدماء للحفاظ على كياناتها والدفاع عن حدودها، ووصم من يناقش في تقسيمات المستعمرين تلك بأنهم يخونون الأوطان ويريدون تقسيم البلاد ويبيّتون شراً بالعباد.
ونتيجة لتلك التقسيمات في تلك الفترة انتقلت مجموعات بشرية من منطقة إلى أخرى إما بالترحيل القسري أو بحسب اقتضاء المصالح والحسابات لأصحاب القرى والبلدات، ولذلك نرى جزءاً كبيراً من أهالي قرى لبنانية مثلاً أُلحقت أراضيهم بفلسطين عنوة وهُجّروا منها قد عاشوا لعقود طويلة مكتومي القيد في لبنان لا يُعترف بلبنانيتهم وهم بالفعل لبنانيون من قرى لبنانية، فيما ألحقت منطقة البقاع الغربي وبعض المناطق في البقاع بدولة لبنان وانتزاعها من سوريا.
إن الأمثلة على تلاعب مفوضي الإستعمارين البريطاني والفرنسي بالبلاد والعباد كثيرة لا يسعها هذا المقال، لكن الأمر الفارق في فلسطين كان وعد وزير خارجية بريطانيا اليهود المبعثرين في أطراف الأرضين بدولة تحل محل دولة قائمة بالفعل، وإحلال شعب محل شعب موجود على أرضه، وطرد شعب مستقر أصلاً في بلده، واستيراد مهاجرين من هنا وهناك وجعلهم مواطنين للدولة الجديدة، وتغيير جميع معالم البلد الأساسية وحتى تبديل إسمه من فلسطين إلى إسرائيل واللغة الرسمية من العربية إلى العبرية.
والعجيب أن معالم هذا الوطن المستحدث بخلاف غيره من الأوطان غير محددة حيث حدوده غير معينة وخارطته غير معروفة بل بقدر تمدد العصابات الصهيونية وتوسعها بفعل المجازر الوحشية التي ترتكبها واغتصابها لأراضي الفلسطينيين بل واحتلالها لأراضي الدول المجاورة تتوسع حدود هذه الدولة ويتم الإعتراف الدولي بها بعد فترة من الزمان، وإن صدرت قرارات دولية ضد احتلال مناطق فإنه يتم تجاهلها وتستمر عملية السيطرة على تلك المناطق وبناء مستوطنات وإسكان مواطنين مستوردين فيها من دون الخوف من صدور عقوبات ضد الممارسات ولا إصرار دولي على التخلي عن تلك المستوطنات، بل يتم القبول بالواقع الصهيوني والتعامل معه على أساس أن تلك المناطق جزء من الكيان الغاصب.
إن الحاكمين على البلاد المقسمة حسب إتفاقية سايكس ـ بيكو والذين يصدرون التصريحات النارية في بعض الأحيان لا يمكنهم بإي حال الإعتراض بصورة جدية على الممارسات الوحشية من جانب الكيان الصهيوني لأنه يواجه بالفعل حركة مقاومة تريد تغيير الواقع الذي فرضه الإستعمار بالكامل ونقض قرار صادر من قبل دولة محتلة سابقاً للبلد كون حكام تلك البلاد هم في الإصل عملاء يحكمون بلاداً رسم حدودها وحدد ملامحها المفوضان البريطاني مارك سايكس والفرنسي وجورج بيكو في العام ١٩١٦ وتسلمها آولئك نيابة عن المحتلين مقتنعين بخرائطها المحددة ومؤمنين بأن المساحات المعينة من قبلهما هي التي يجب الحفاظ عليها من دون التفكير بتجاوزها إلاّ إذا قرر الأسياد ذلك، فالسودان تكون دولة منفصلة عن مصر في مرحلة والسودان هذا ينسلخ عنه جنوبه بعد ذلك والصحراء الغربية تبقى منطقة نزاع بين دولتين لأن المستعمر لم يحسم أمرها كما أن بعض المناطق المسماة محايدة بين دول في الخليج تبقي صواعق يمكن تفجيرها عندما يريد المستعمر الضغط على أية دولة لا تسير وفق رضاه.
إن ٢٨ دولة مختلفة اللغات والثقافات والطوائف وأنظمة الحكم في القارة الأوروبية تتحد فعلاً وتزول من بين بلدانها الحدود ويتم تداول عملة واحدة في أغلب دولها وتتكاتف سياسياً في مختلف المحالات بل ويسهل على مواطني إي بلد منها اكتساب جنسية بلد آخر والحصول على إقامة فيها وفرصة عمل لديها، فيما ممنوع على دول تتكلم بلغة واحدة وتدين بدين واحد ولها حضارة مشتركة أن تتقارب بل تزيد يوماً بعد يوم الإجراءات التي تحدّ من التواصل بين مواطني تلك البلاد، وتشتد الخلافات بين أنظمة الحكم فيها بذرائع واتهامات، بل وتنشب الحروب هنا وهناك وتُنبش العصبيات وتتحرك العداوات حتى أنك لا ترى أية فرصة للتوادد بين بلدين عربيين ولا إمكانية للتلاحم بين دولتين إسلاميتين، بل تجد الإجراءات على حدود البلدان تشتد يوماً بعد يوم، والتضييق على حركة المواطنين فيها تزيد، وممنوع أن يكتسب مواطن هذا البلد جنسية غيرها إلاّ بحالات خاصة وبفرمانات همايونية، والمصاعب في وجه الذين يريدون الحصول على إقامة في هذا البلد وذاك تزيد يوماً فيوماً، كل ذلك لأن السيد الذي أولاهم أمر إدارة البلاد نيابة عنه يرغب في ذلك الفصام ويحب بقاء البلاد التي قسمها على ذوقه وسلمها لوكلائه محافِظةً على تلك التقسيمات غير متجاوزة الحدود المرسومة جغرافياً والمعينة شكل نُظُمها سياسياً، وحتى يجد كل حاكمٍ المستعمرَ ملاذاً، والإستعانة بأساطيلها وجنودها ضرورة، والقبول ببناء قواعد لها على أراضيها أمراً لا مناص منه لحماية نُظُمها، بل وجوب عقد اتفاقيات عسكرية مع المستعمرين بعشرات مليارات بل بمئات مليارات الدولارات ليكون ذلك سبباً لرضا الأسياد عن الحكام، ويستمر الحفاظ على العروش والكراسي بهذه الطريقة، بل يمتد هذا الإرتهان للأجنبي ليشمل القرارات السياسية وحتى السيادية حيث بتم الرضوخ لما يمليه السيد الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي من مواقف من دون تردد والإنسياق مع إراداتهم من دون نقاش، وعندما تسألهم عن سبب هذا الرضوخ والإرتهان يأتيك الجواب بكل وضوح وصراحة بأننا غير قادرين على مقاومة إرادة الأسياد الذين هم سلطونا على البلاد وهم قادرون في أي حين على سلب البساط من تحت أرجلنا.
إن تجربة طوفان الأقصى في غزة قد كشفت العورات المستورة من قبل، وأجبر القريبين والبعيدين على الإفصاح عما تُكنّ صدورهم، فقتل عشرات ألوف الفلسطينيين وأكثر من مائة ألف جريح لم يحرّك ” الضمائر ” العربية التي ثارت ثورتها ضد الحالة في العراق وضد نظام الحكم في سوريا، وإبادة شعب والقضاء على عائلات بأكملها لم تدفع أحداً من ” أصحاب النخوة ” ليهبّ ويبادر إلى نجدة إخوانه المظلومين، ولم يجرؤ أحد من ” الغيارى ” على الأمة العربية على إيصال قنينة ماء أو وجبة غذاء للعطاشى والجائعين من بني قومة لأن الصهيوني يمنعه من ذلك، بل إن العربي صار يرضى بتجاوز سيادته على أرضه ويأذن للصهيوني بأن يقوم بتفتيش كل شاحنة من المساعدات قبل أن يأذن له بدخول قطاع غزة، ويحدد هو العدد المسموح بدخوله من الشاحنات والمواد الغذائية والطبية والوقود أيضا، وكذلك تعيين خط سير الشاحنة ومكان إفراغ حمولتها، وحتى التحكم في الأفراد الذين يمكنهم الإستفادة من تلك المساعدات.
والأنكى أنه لا يمكن فتح الحدود بين مصر والقطاع إلا طبقاً لموافقة الصهاينة ولا يمكن السماح بمغادرة أو دخول أحد إلاّ إذا كسب موافقة الإسرائيليين قبل ذلك؛ وبعد ذلك نرى الذين تجمعهم جامعة عربية لا يتحركون إلاّ بعد تدمير المباني على رؤوس أهاليها في قطاع غزة وبعد مرور أسابيع على الحرب الشعواء على قطعة من الأرض العربية الغالية، بل وتقوم الدفاعات الجوية في دولة عربية وإسلامية باعتراض الصواريخ والمسيّرات المتجهة نحو الكيان الصهيوني بدعوى تجاوز سيادة الدولة واختراق أجوائها من دون إذن مسبق، وقبل ذلك انبرى وعاظ السلاطين ليبرروا السكوت على المجازر الصهيونية هذه وعدم التأثر بما يُرتكب من إبادة جماعية بحق الأبرياء، وحتى الإفتاء بحرمة التظاهر تعبيراً عن التعاطف مع المقاومين بل ذهبت بعض الأبواق إلى حد التأييد لتلك الممارسات الوحشية الصهيونية لأن المقاومين لم يتحركوا طبقاً لإرادة ولي الأمر الذي بدوره يتبع ولاية سيد البيت الأبيض.
إن كثيراً من الحقائق التي لم يكن من الممكن كشفها بأي حال قبل هذا، والدفائن التي لم يكن أحد قادراً على التعرف عليها في السابق، والحقائق المستورة عن أعين الناظرين حتى الأمس القريب، قد تم رؤيتها بوضوح أثناء معركة طوفان الأقصى لكل ذي عينين في أقطار الأرضين، والأمة العربية والإسلامية رأت بناظريها من كان مسانداً حقاً للمظلومين في قطاع غزة ومن كان المتواطئ جهاراً مع المجرمين، والعالم كله كشف حقيقة الذين كانوا يحملون كذباً راية ” حقوق الإنسان “، ويدّعون زوراً الدفاع عن ” حق الشعوب في تقرير مصيرها “، وينادون خداعاً بـ ” الدفاع عن القيم الإنسانية “، في دول الغرب، والذين كانوا يهبّون لمساعدة ” المضطهدين ” في أقصى البلاد وتسارع المنظمات الدولية إلى عقد الإجتماعات المتتالية وإصدار القرارات المشددة وفرض العقوبات القاسية فيما كانت تلك الدول نفسها تشدد على ضرورة استمرار عمليات الإبادة الجماعية في غزة وتحول دون صدور قرار يطلب وقفاً غير محدد التوقيت لإطلاق النار في القطاع، وذلك بدعوى أن ذلك يمكن أن يعطي الفرصة للمقاومة لتعيد تنظيم صفوفها وأن ذلك يعيق عملية الأرض المحروقة التي يمارسها الصهاينة بحق شعب القطاع المظلوم، بل إن دولاً عربية في خطابها بمجلس الأمن الدولي قد بررت مع الأسف للعدو الصهيوني جرائمه وأدانت بكل وقاحة الشعب الفلسطيني على مقاومته.
وفي عزّ الحرب على شعب عربي وإبادة جماعية لبني جلدتهم يستقبل زعماء العرب رئيس كيان الإحتلال على أراضيهم ويصافحه قادة في الخليج بوجوه مبتسمة غير مبالين بما يصيب إخوانهم في الساعة نفسها على يد إخوانه المجرمين، وغير مهتمين بالدماء التي تسيل من أصابعه وأصابع زملائه لأطفال رضّع ونساء حوامل من إخوتهم في الدم والدين، ولا نجد مع الأسف أي ردّ على هذا التصرف الوقح والإستهانة بالدماء من قبل أي شخص أو حزب أو تنظيم أو مؤسسة أو دولة، وهذا ما يفسح في المجال للخائنين بالإستمرار في مسيرتهم والتحرر من قيمهم والتزاماتهم.
إن المطلوب اليوم من الشعب الفلسطيني المظلوم على الخصوص والشعوب العربية والإسلامية عموماً والنخب الثقافية الحرة في أرجاء المعمورة تسجيل هذه الحقائق الواضحة في الذاكرة وتثبيتها في الوجدان حتى لا تنسى الأمة ما كشفته مع مرور الأيام ولا تتعامى عما رأته مع تقادم الزمان، ولا تتأثر مرة أخرى بالشعارات الخادعة والإدعاءات الكاذبة سواء من قبل دول الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص بدون تفريق بين الحزب الجمهوري والديمقراطيين أو من جانب الذين يدّعون العروبة وهم برءاء عنها أو الذين يتكلمون باسم الإسلام والدين يعلن بكل وضوح خروجهم عنه لأن القرآن الكريم هو يصرح بذلك عندما يقول: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي