” الثلاثية ” بقلم : الدكتور خلف المفتاح – المدير العام لمؤسسة القدس الدولية – سورية

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

– هذه الثلاثية أقصد بها الوطن والمواطن والوطنية التي يفترض أن يكون لها موقع القداسة في ثقافتنا العامة ومجالنا العام فهذه تحتاج إلى مزيد من الإضاءة عليها وتحليل مفرداتها ومضامينها، والأهم من ذلك كله تعبيراتها السلوكية العملية وتراتبيتها في نسق القيم التي نؤمن بها، فالحديث عن الوطنية والمواطنة يكثر ويبرز على السطح وفي النقاش العام عندما تمر الأمم والشعوب بظروف صعبة أو أزمات وحروب وغيرها من أشكال التحدي ما يستدعي حواراً عاماً ونقاشاً مستفيضاً عنها وحولها.
– وبادىء ذي بدء لا بد من الإشارة أن التركيز على المقولات الوطنية في الأزمات والحروب مسألة صحية بل ضرورة تمليها وتستوجبها وتستدعيها طبيعة الظرف الذي يمر به الشعب أو الأمة، لأنّها إحدى أهم الوسائل التي يمكن من خلالها استحضار الحالة الوطنية واستفزازها بشكل إيجابي ليكون الضمير الفردي والجمعي حاضراً بل وفي أحسن حالاته مع الاعتراف بحقيقة أن الواجب الوطني لا يحتاج ابتداء إلى من يحرضه أو يستدعيه أو يستنفره.
– إن الحديث عن وطن؛ يعني ” ضمناً ” أن هناك مواطناً، ولعل ما يربط المواطن بالوطن أكبر بكثير من متقابلة الحقوق والواجبات وعلى أهميتها وهي التي تنص عليها الدساتير والقوانين الوضعية وتفرد لها العديد من الأبواب والمواد والشروحات لأنّها تلك العلاقة بين الإنسان والأرض التي يعيش عليها، وهي تلك التي صاغتها قوانين السماء وقواعد الحق الطبيعي والعدالة الإلهية فالدفاع عن الأرض والعرض هي في وجداننا وناموسنا وأخلاقنا قبل أي شيء آخر فهما القيمتان الأخلاقيتان الأكثر حضوراً وتمثلاً وتأثيرًا وتجلياً في ضميرنا الجمعي.
– وما دمنا في الحديث عن الوطن والمواطنة فلابد من حديث عن الوطنية وتعبيراتها وتجلياتها بل ووسائل قياسها وكل ما يرتبط بها من أشكال سلوك؛ كونها قضية أخلاقية ومنظومة قيمية قبل أن تكون نصوصاً أو عناوين يتناولها الكتاب والباحثون والمحللون.. فالوطنية تعمل ولا تتكلم تضحي ولا تطلب نبع ثر غزير يعطي بلا حدود وما دامت كذلك فلا بد لنا ونحن نمر بحالة اختبار وطني غير مسبوق في بلدنا سورية التي تتعرض لحرب مركبة تشن عليها ولا تزال في أشكال مختلفة من قوى لم يسبق لها أن اجتمعت على بلد واحد، من هنا تأتي أهمية وضرورة أن نتذاكر كسوريين في واجباتنا الوطنية وما يمليه علينا ذلك من أشكال التضحية في حدودها العليا والدنيا؛ لأنّ حزمة الواجبات الوطنية واسعة وغنية ومتعددة في درجتها ونوعها ومستواها وإذا كان من الممكن الحديث عن سقفها الأعلى وهو الشهادة، فإن الحديث عما دون ذلك مسألة تحتاج إلى تفصيل يتوزع بين السلوك الجماعي والجهد الفردي الذي يمكن لأي مواطن أياً كان موقعه القيام به على خير وجه وهو مرتاح الضمير.
– إن الوطنية كسلوك إيجابي وواجب ” وهذا من وجهة نظرنا ” ؛ مسألة ترتبط بالظرف التاريخي الذي يمر به الوطن فهي في حالات السلم والاستقرار غيرها في ظروف الحرب والأزمات والكوارث، فإذا كانت الوطنية تستدعي مقاومة المستعمر وطرده في حالة الاحتلال فإنها تستوجب بالضرورة العمل والإعمار والإنجاز بعد تحقيق ذلك ففي الحالة الأولى سقف الوطنية هو المقاومة والشهادة وفي الثانية هو العمل والإبداع والإنجاز وحس المسؤولية الوطنية بحده الأقصى.
– وإذا كان السؤال المحوري في راهننا السوري ونحن لازلنا نخوض غمار حرب غير مسبوقة كيف لي أن أعبر عن وطنيتي فالجواب في غاية السهولة لأن المجال متاح لكل سوري كي يعكس ويعبر عن هذه الحالة من المقاتل الذي يواجه العدو ويدفع حياته ودمه ثمناً لذلك، وهو الحد الأقصى إلى كل أشكال السلوك الأخرى، فمن يوفر لقمة العيش للمقاتل وثمن الرصاصة مروراً بالعامل الذي ينتج لتستمر الحياة مروراً بالفنان والأديب والكاتب الذي يجسد بطولات شعبنا وقواتنا المسلحة عملاً فنياً أو شعرياً أو روائياً أو درامياً إلى الطفل والطالب الذي يرود مدرسته وجامعته غير آبه بالظروف الصعبة والقاسية التي نعيشها، إلى البائع والتاجر الذي يستمر بعمله ولا يحتكر قوت المواطن أو يتلاعب بالأسعار ويستثمر في آلام وحاجات أبناء جلدته إلى الإعلامي الذي يغطي ساحات العمل مبرزاً مظاهر القوة ونقاط الضعف في البنية العامة ومسلطاً الضوء على الإيجابي والسلبي، إلى سيدة المنزل التي تربي أبناءها على حب الوطن وتقتصد في نفقات المعيشة والاستهلاك، إلى الأطباء والممرضات في مشافينا ومعلمي المدارس وأساتذة الجامعات الذين يستمرون في أداء واجباتهم مثبتين لأعداء الوطن أن الشعب السوري أقوى من كل أشكال القتل والترهيب والإرهاب الذي يمارسونه وأن ثقافة حب الحياة والشهادة أقوى من ثقافة الإرهاب والدم والقتل التي تربوا ونشؤوا عليها.
– فالوطنية ؛ هي منظومة سلوكية قيمية شاملة لكل أشكال السلوك تنطلق من الذات إلى الموضوع من الفردي إلى الجماعي تتوزع بين مستويات لها حدها الأعلى وهو الشهادة في سبيل الوطن، وحدودها الدنيا وهو ما دون ذلك من أشكال السلوك والأداء التي أشرنا إليها، من هنا يمكننا القول إننا قادرون جميعاً أن نعبر عن وطنيتنا في مساحات تبدأ من أسرتنا الصغيرة التي نسكن فيها وأسرتنا الكبيرة التي تسكن ضميرنا ووجداننا سورية الوطن.
– بقلم : الدكتور خلف المفتاح – المدير العام لمؤسسة القدس الدولية – سورية