أمي ” معراج الروح ” بقلم : فاتن أحمد صالح

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

 

– هي معراج الروح ..

– هي بساتين الزهور ..

– هي الأم ذلك الحضن الدافئ الذي لم يفتر يوما عن العطاء ثم العطاء ثم العطاء ..

– هي تلك السنديانة القوية المتجذرة في أعماق أعماق الروح لا ينقطع ذكرها في الليل و لا في النهار فإذا ما انقطع يعود نارا أوار  ليوقظ التحنان من جديد ..

– هي الأم نبع الينابيع .. ونجمة النجوم ومفتاح الجنة .. والقصة التي بين يدينا تروي شيئا من قيمتها .

– إنها لا تعرف القراءة والكتابة :

– لكني أراها تكتب بسبابتها أو بعودٍ من القصب ، على الأرض أو على طرف ثوبها حروفاً وهمية .

– أمي عيناها كبيرتان وواسعتان مثل الرحمة ، لكني مازلت أجهل لونهما الحقيقي، هي تديرهما في كل اتجاهات غرفتنا ثم تتنهد ، تفعل ذلك دون أن يصدر من فمها المزموم الصغير أدنى صوت ، وأنا ياجماعة أعرف السبب ، أعرف أن الكلام عندها لم ينفذ ولكن ..؟ شبح الجوع كان جاثماً بشكل ” عميق عميق ” على مفاصل حياتنا البائسة والمريرة . 

– كانت أمي حينما يجلب أحد الأقارب شيئاً من فاكهة الموسم تجد ثغرها يبتسم بصورة ساحرة ، وتتسع عيناها غريبتا اللون ، تحمل الكيس وهي تنحني لهذا ولذاك من إخوتي ، قبل أن ترمي بحصة منها في حجري ، يارب  كم تبدو فاتنة أمي  الأميرة وهي تمشي في أرجاء البيت ومن خلفها يخطُّ الأرض ثوبها الوحيد دون أن يرفع ذيله أحد. ذات الضفائر السود الطويلة تضحك وتبكي في آن واحد ، تضع يدها على قلبها، إن مرض واحد من إخوتي ، وتفعل العجب أحياناً ، أتذكر أنها صفعت أخي الصغير على خده ذات مرة ، فقط لأنه قبلها من فمها .

– تقول أمي ، لايجب أن يقبّل هذا الفم غير صاحبه الشرعي ، أبي ..!

– أمي لديها دجاجة بريش أسود كالفحم ، تقضي وقتاً لابأس به في تفحصها ، لا تعبأ كثيرا لصياحها ، لكنها تصفعها على رأسها في النهاية وهي تهزه بطريقة مضحكة ، قبل أن تقول :

– صوتك أكبر منك ، سأذبحك إن لم تبيضي ..

– الأولاد لم يفطروا ،،، وحين يخلد أغلب إخوتي للنوم، تعاود أمي السير على أطراف أصابعها ، تقف عند رأسي الغارق في صفحات الكتاب، تتنهد قبل أن تنحني وتمس شعري ، أي تيار كهربائي عجيب يفعله سحر أصابعها ..! تهمس بصوت خافت :

– لقد باضت الدجاجة أخيراً ، سأقليها لك بقليل من الزيت الذي عندنا، كان بودي لو باضت أكثر من واحدة، سيكون لطيفا لو شاركك إخوتك الطعام ..!

– وفي الصباح تضج دارنا بالحركة ، أسمع صوت خالي يتحدث إلى أمي ويداعب شقيقاتي كما هي عادته ، هيئة ضبابية تقف عند رأسي ، سرعان ما تتسلل ذات الأصابع المفعمة بالحنان لتداعب أنفي، تجر الغطاء بقوة هذه المرة، أمي ومن غيرها يفعل ذلك ، تقول وفمها المتعب الحلو يبتسم مرة ومرتين :

– خالك يسأل عنك ، لقد جلب أغراضا كثيرة ، يريدك أن تعملي معه يقول وضعنا سيتغير ، أخبرته أنك ما زلت طريا لمثل هذا العمل. كان خالي على وشك الأنصراف  حين وضعت يدي على كتفه من الخلف ، قلت له وأنا أحدق في أعماق عينيه اللوزيتين :

– أنا جاهزة للعمل يا خالي ، سأكون عند حسن ظنك .. يدس خالي يده في طيات شعري الطويل، يتناهى لسمعي بوضوح صوت نشيج أمي ، يشيع الإرتباك في وجوه إخوتي المتناثرين حولنا ، ثم تبدأ الدجاجة السوداء بقوقأة منغمة سرعان ما تعلو وتهتف شقيقتي الصغرى :

– الدجاجة وضعت بيضة أخرى يا أمي ..

– هيا تعالي اقليها لنا ..

– انظر إلى وجه أمي وهي تبتسم وتنظر إلي بهزة رأس خفيفة ..

– إنها حقاً معراج الروح .

 

– فاتن أحمد صالح فلسطينية .

– تكتب الشعر والقصة والخاطرة .

– عضو الملتقى الثقافي في مخيم شهداء السيدة زينب عليها السلام .

– عضو قيادة فرع المخيمات الجنوبي في جبهة النضال الشعبي الفلسطيني الساحة السورية .