في رحاب ذكرى مولد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله .. بقلم : السيد صادق الموسوي

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

 

– قبل ١٤٩٧ عاماً وُلد من صلب عبد الله بن عبد المطلب ومن رحم آمنة بنت وهب صبي أسمته أمه محمداً، لكن أبا هذا المولود قد مات وهو جنين، وأمه أيضاً ماتت بعد ولادته وكان عمره يومذاك ٦ أو ٨ سنين باختلاف الروايات، فأخذ بكفالته جده عبد المطلب لكنه توفي بعد عامين من ذلك، فانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب فترعرع المولود في كنفه ورعاه بأفضل رعايته، حيث كان يفضل أبو طالب وزوجته فاطمة بنت أسد محمداً على أولادهما جميعاً، بل كان يقوم أبو طالب نفسه بحراسة محمد طوال الليل مبدلاً مكانه بين أبنائه اطمئناناً عليه، وزوجته لم تأذن يوماً لأحد من أولادها مدّ الأيدي إلى صحفة الطعام قبل أن يحضر محمد صلى الله عليه واله، وكان محمد يقابل هذا الإهتمام الشديد والرعاية الفريدة بالإعتناء المميز بعلي الذي وُلد والنبي في كفالة أبي طالب، حيث يصف علي عليه السلام ذلك السلوك الجميل بقوله: ” وضعني المصطفى في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنُفُني في فراشه، ويُمِسّني جسده ، ويُشمّني عَرْفَه، ويقبّلني فأمصّ ريق حكمته، وآكل في قصعته، وألعق أصابعه، حتى كان يمضغ الشيء ثم يُلْقِمنيه “.

– وهكذا كان حتى بلغ النبي صلى الله عليه واله سن الشباب فحاول كسب المال لنفسه وبعرق جبينه فذهب أولاً وتحت رعاية عمه أبوطالب في رحلة تجارية للسيدة خديجة التي كانت ذا مالٍ كثير وتعمل في التجارة بين مكة والشام، ثم هو قاد الرحلة إلى الشام في المرة الثانية وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره الشريف، فعاد إلى مكة رابحاً أضعاف ما كانت تتوقع السيدة خديجة، ونقل إليها غلامها ” ميسرة ” الذي كان في الركب أخباراً جدّ عجيبة عما حدث مع هذا الشاب ومشاهد غريبة عنه رآها بعينيه أثناء الرحلة الطويلة، فأثارت تلك الأخبار السيدة خديجة كثيراً وبعدما تحققت من صحة الأمور أُعجبت بشخصيته شديد الإعجاب وملك قلبها ولم تجد عنه لها بديلاً.

– لقد كان كثيرون من رجال مكة من ذوي المال والجاه يودون الاقتران بها ويتمنون قبولها الزواج منهم، وهي كانت دوماً ترفض طلباتهم كلها لأن قلبها لم يمِل إليهم وروحها لم تتأثر بهم، حتى وجدت الشاب محمداً الذي اكتشفت فيه الشخصية المثالية التي تحلم به والزوج اللائق الذي تتمناه، لكن كان العائق الذي يمنع محمداً من الجرأة على طلب يدها والتقدم للزواج منها هو ضيق ذات يده وعدم امتلاكه المال الذي يناسب الموقعية الإجتماعية للسيدة خديجة، وهي التي عشقته بكل قلبها وروحها ولا ترضى لنفسها أحداً في هذه الدنيا غيره  بادرت إلى إزالة هذا العائق على طريقتها، حيث أرسلت المال الكافي عبر أختها ” هالة ” إلى المتيمة به ليأتي ويطلب الزواج منها ويقدم هو ذلك المال مهراً لها أمام الحاضرين.

فكانت الجلسة المباركة وأجرى أبو طالب عقد النكاح وكان الزواج الميمون، وعاشت السيدة خديجة إلى جانب النبي صلى الله عليه واله في سعادة غامرة، وكان يزداد حبها له وولهها به يوماً بعد يوم وهي ترى عن قرب ميزات هذا الشاب وتكتشف فضائله التي لا يملك أحد في العالمين مثلها، فرأت في شخصه غاية الأمنيات، وبلغت في عشقه أرقى الدرجات، فلم تفكر يوماً في أنها صاحبة مال وهو فقير الحال، بل كانت تضع نفسها وكل ما تملك تحت تصرف زوجها من دون أي تردد أو تأخير.

– إن النبي محمد صلى الله عليه واله لما صار ذا سعة بعد الزواج من السيدة خديجة فكر أولاً في رد الجميل إلى عمه أبي طالب الذي كان بذل كل ما يملك ليؤمّن الراحة الكاملة له ويعوّض له فقد والديه بحنانه وعاطفته، فسارع إلى العمل على التخفيف من أعباء كفيله بعدما أصابت قريشاً في إحدى السنوات عسرة وأصبح عمه أبو طالب في ضيق، فاقترح على عمه الآخر العباس أن يذهبا إليه فيخففا عنه مؤنته من خلال تكفل ولدين من أبنائه الثلاثة عقيل وجعفر وعلي، فأتيا إليه بالإقتراح فقال: ”  دعوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم “، فأخذ النبي صلى الله عليه واله علياً الذي كان يبلغ في حينه السادسة من عمره حسب أغلب الروايات وتكفل العباس جعفراً، فكان علي عليه السلام منذ ذلك اليوم يعيش في بيت واحد مع الزوجين المثاليين يرعاه ليلاً ونهاراً محمد الذي كان كما أخبر أمير المؤمنين عليه السلام ” قد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره “.

– ولبيان شدة تأثر علي عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه واله ومقدار ولهه بشخصه وأخلاقه يقول: ” ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالإقتداء به “.

وللتفرغ لعبادة الله قبل البعثة كان النبي صلى الله عليه واله يعتزل الناس في كل عام فترة في غار ” حراء ” ويختلي مع الله أياماً يتفرغ فيها للعبادة وعلي عليه السلام هو دوماً إلى جانبه ويأتي إليه بالماء والطعام من منزله والذي كانت تحضّر لهما السيدة خديجة.

– بقيت الأمور هكذا سنوات والوئام بين محمد وخديجة وعلي يتوثق يوماً بعد يوم وتأسي الإثنين بالنبي يتكرس فكراً وأخلاقاً وممارسة حتى كانت اللحظة التي قرر الله سبحانه تكليف سيد المرسلين بحمل راية الدعوة إلى التوحيد، حيث كان النبي صلى الله عليه واله مجاوراً بـ ” حِراء ” منقطعاً إلى الله سبحانه وتعالى كما أسلفنا، وإذا بصوت رسول الوحي يأتي مخاطباً إياه: ( إقرأ ) ومكلفاً إياه مسؤولية هداية البشرية وإنقاذ الناس من الجاهلية، وعلي بن أبي طالب المتواجد في حينه بالغار يخبرنا بتفصيل كيفية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وآله وتكليفه بالرسالة، إذ يؤكد علي على أنه سمع بأذنه صوت حامل الوحي ورأى بعينيه شخصه، ولحظ أيضاً رنّة الشيطان في أول ردّ فعل منه على بعث النبي صلى الله عليه واله وتحمله مهمة الهداية.

– وهناك ومنذ اللحظة الأولى من نزول الوحي تحددت مهام كل من النبي محمد وعلي بن أبي طالب، حيث تعين من عند الله سبحانه محمد نبياً، وكان في نفس اللحظة اختيار علي وزيراً له في مسيرة أداء الرسالة، وذلك بصريح العبارة على لسان علي نفسه إذ يقول في إحدى خطبه: ” وقد كان ( رسول الله صلى الله عليه واله) يجاور في كل سنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري … أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوة؛ ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، … ثم قال: ” ( يا علي؛ ) إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنك لست بنبيّ ولكنك لوزير وإنك لعلى خير “.

– فنزل النبي مسرعاً إلى بيته يتصبب عرقاً ومعه علي وهو يشعر بثقل المسؤولية وعظم المهمة، فتلقته السيدة خديجة رضوان الله عليها بكل الترحاب مستغربة الحال، ولما أبلغها بالأمر وعلي إلى جانبه آمنت به دون تردد لأنها قد عرفته بصدق اللسان طوال سنوات العشرة، ورأت شدة قربه من الله وكثرة تضرعه إليه، إضافة إلى وجود شاهد حضر المشهد بتفاصيله وهو علي بن أبي طالب وهو عندها أيضاً موضع ثقة ولم يجد أحد فيه ” كَذبة في قول ولا خطلة في فعل “.

– لكن عظم الحدث وصعوبة الأداء دفعا السيدة خديجة رضي الله عنها للمسارعة  إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان رجلاً حكيماً ومطلعاً على كتب الأديان معتزلا الأوثان وممتنعاً عن أكل ذبائح أهل الجاهلية حيث قامت إخباره بالحدث التاريخي الكبير وهو أدرك بسرعة حقيقة الأمر وأكد صحة الواقعة.

– من هنا بدأت الرحلة الشاقة للنبي صلى الله عليه وآله ومعاناته الشديدة مع قومه حيث قال: ” ما أوذي نبي مثل ما أوذيتُ “، وكان شريكاه اللذان تحملا معه عبئ التبليغ والأداء هما زوجته السيدة خديجة رضوان الله عليها ووزيره علي بن أبي طالب عليه السلام.

وبقي سيد المرسلين يكافح طوال ١٣ سنة من أجل هداية الأمة ويأبى رد أذى المشركين بالدعاء عليهم كما فعل بعض النبيين قبله، بل كان ردّ فعله صلى الله عليه وآله دوماً على كل الأذى “: ” اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون “.

– وبعد أداء الأمانة الإلهية وتبليغ الرسالة السماوية وهداية الأمة ذهب النبي الأكرم وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه واله إلى ملكوت الله، وبقي الوزير وصياً على حسن سير العملية وتحمل في سبيل حفظ العهد والحفاظ على بقاء الأمة كل ظلم له وهضم لحقه، وصبر علي عليه السلام على أنواع الأذى من الأمة كما تحمل النبي صلى الله عليه واله من قومه من قبل، وكما فشلت مؤامرات القضاء على الرسالة في حياة الرسول صلى الله عليه واله كذلك خابت آمال الذين توقعوا انقلاب الناس على دينهم بعد رحيله بناء على صدام حتمي بين علي صاحب الحق الأكيد وقطب رحى الأمة ومعه كثير من المهاجرين والأنصار وبين مدعي الخلافة قهراً، فتحين الفرصة ويدور القتال ويعمّ الخصام ويندثر الدين، لكن علياً رغم المرارة الشديدة صبر، ورغم قدرته على حسم الأمور انتظر، حيث هو يقول: ” صبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً “.

– فسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين الذي بولادته أشرقت شمس الهداية على الأمة، وبرسالته نَقَذت البشرية، وبشريعته سعدت الإنسانية، وبإسلامه نُسخت الشرائع وفُكّت الآغلال وأُحلت الطيبات وحُرّمت الخبائث، وسُهل طريق الوصول إلى الجنان والنجاة من النيران، وكان في النهاية إكمال الدين وإتمام النعمة وكسب رضى الله رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

– السيد صادق الموسوي