الحوار الديني لا يستهدف التبشير وإنما نسج علاقات إيجابية ومعالجة وقائع تهم الإنسان والعالم .. بقلم : محمد المحفوظ

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

-لا شك أن ما سمي في مدونات المؤرخين بصحيفة المدينة، وهي نص العقد والاتفاق الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع مكونات وتعبيرات مجتمع المدينة آنذاك، يعد من النصوص التأسيسية التي توضح بشكل لا لبس فيه طبيعة العلاقة القائمة، أو التي ينبغي أن تقوم بين مختلف المكونات الدينية والقومية للاجتماع السياسي الإسلامي. فهو «أي النص» ”يكشف عن النوايا الحقيقية للإسلام الذي أقدم لأول مرة في التاريخ الحضاري على إنشاء مجتمع واحد مختلط «وطني وسياسي ومدني» حيث يقوم الناس على اختلاف أديانهم بمسؤوليات واحدة في حياتهم الدنيا“.

ولقد استنبط العلماء والفقهاء هذه الحقيقة الدستورية والقانونية والسياسية من المقولة الواردة في صحيفة المدينة { لهم مالنا، وعليهم ما علينا } .. فالحقوق كلها متساوية كما الواجبات. فالاختلافات الدينية أو السياسية لا تشرع للتمييز، بل تؤكد على ضرورة المساواة وتكافؤ الفرص. لذلك فإن العلاقة التي تؤسسها صحيفة المدينة، هي علاقة المساواة والتكافؤ ونبذ كل أشكال التمييز والتهميش.

فلقد جاء في الوثيقة { إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو الحرث على ربعتهم، وبنو ساعدة على ربعتهم، وبنو جشم على ربعتهم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو أوس وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم. وإن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل } .

وفي الإطار الديني فإننا نعتقد أن الحوار بين الإسلام والمسيحية لم ينقطع منذ بزوغ فجر الإسلام. ولقد اتخذ هذا الحوار أشكالا متعددة وموضوعات مختلفة. فتارة يكون الحوار ذا طابع لاهوتي – عقدي، يعنى بشؤون الربوبية والوجود والآخرة وما أشبه، وتارة أخرى يناقش قضايا معاصرة تهم الإنسان والمجتمعات المعاصرة. ”وقد تجلى هذا الحوار أول تجلياته في القرآن الكريم، وكان ذا اتجاهين: أحدهما، يتمثل في دعوة المسيحية إلى الإيمان به، باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية. وثانيهما، يتمثل في دعوة المسيحية – إذا رفضت الإيمان به – إلى التعايش معه بعد الاعتراف به. إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق“.

فالرؤية القرآنية لا تفرق بين أنبياء الله تعالى، وتعتبرهم جميعا في قافلة واحدة، وهي قافلة الإيمان والهدى. يقول تبارك وتعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} .

وكل الرسالات السماوية تشترك في الدعوة إلى العدالة وسيادة قيمها ومتطلباتها في الواقع الإنساني. قال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أحوينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } .

ووجه القرآن الحكيم إلى أهل الكتاب، نداء التعاون على مقاومة الظلم ونصرة الحق وإقامة العدل. قال تبارك وتعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .

فـ ” الموقف الأساس في الإسلام من الإنسان هو التكريم، بصرف النظر عن أي انتماء من الانتماءات. قال تعالى { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } . والتكريم الإلهي للإنسان نابع من السر الإلهي في الإنسان أنه نفخة من روح الله: { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } .. { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } .

وهو الذي اقتضى سجود الملائكة له. ومهمة الإنسان على الأرض هي أنه خليفة الله. فهذا الإنسان المكرم هو خليفة الله في الأرض: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } . إن هدف الخلق الأول للإنسان هو أن يكون خليفة الله للإعمار وللوصول إلى التكامل الروحي “.

وعليه فإن تاريخ الإيمان وفق الرؤية الإسلامية تاريخ واحد، وأن تجليات الإيمان على ألسنة الرسل والأنبياء هي تجليات لحقيقة واحدة لا تفاوت في جوهرها، وإنما تتفاوت في سعتها وفي عمقها وفي إجمالها وفي تفصيلها.

والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف نظر القرآن الحكيم لأهل الكتاب. بالإمكان الإجابة على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:

1 – إن الذكر الحكيم علّم المسلم أن أهل الكتاب، هم سلفه في الإيمان الإبراهيمي، وأن بينه وبينهم قرابة المشاركة في هذا الإيمان، وإن إيمانهم جزء مقوم لإيمانه الإسلامي. قال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .

2 – وعلى أساس الإيمان الجامع، وجه القرآن الحكيم المسلمين إلى الجامع التوحيدي نحو أهل الكتاب. قال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .

3 – التعامل والتحدث معهم باحترام وتقدير، ولعل في تسميتهم بأهل الكتاب، للتأكيد على القرابة الروحية والإيمانية، ما يشير إلى هذه الحقيقة ويؤكد عليها، وصنفهم الذكر الحكيم إلى قسمين: منهم من استقام، ومنهم من انحرف. قال تعالى { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } .

وهذا النقد الذي مارسه القرآن الحكيم تجاه أهل الكتاب للاختلاف العقدي، لم ينعكس على التشريع الاجتماعي والسياسي .. بل أكد القرآن الحكيم على مبدأ الاستقلال التشريعي لأهل الكتاب في جميع شؤونهم وأحوالهم . قال تعالى { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .

وبالتالي فإن الاختلاف العقدي، لم يفضي إلى إلغاء شخصيتهم الثقافية بل على العكس تماما. حيث أن صيانة مبدأ الاستقلال التشريعي، قاد بدوره إلى استقلال الشخصية الثقافية وحرية ممارسة العبادة وكل الطقوس الدينية والشعائرية. بل إن القرآن الكريم وفي سورة كاملة «سورة البروج»، خلد ذكر شهداء نصارى نجران، وعبر عنهم بالمؤمنين ومدحهم. فقال عز من قائل { قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } .

وفي سورة الروم تسجيل صريح وواضح لتعاطف المسلمين مع المسيحيين في مواجهتهم وصراعهم مع المجوس الذين اعتبرهم مشركو مكة أقرباء روحيين لهم، في مقابل اعتبار النصارى أقرباء روحيين للمسلمين. قال تعالى { ألم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون } .

فالرؤية الإسلامية والتجربة التاريخية الإسلامية الأولى، كلها مضامين وحقائق، تؤكد قيم الشراكة والاحترام المتبادل بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى. ولكن ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية، نتجت ظواهر مضادة لتلك الحقائق والمضامين الثابتة.

لهذا وانطلاقا من كل المقولات الآنفة الذكر، نقول إننا مع الحوارات الدينية والحضارية.. وندرك أن هذه الحوارات، لا تستهدف التبشير أو نقل المواقع، وإنما هي تستهدف التعريف والتعارف، الذي يقود إلى نسج علاقات إيجابية، بعيدا عن السجالات اللاهوتية، أو ضغط الذاكرة التاريخية.. بمعنى أنها حوارات تتجه إلى معالجة وقائع معاصرة تهم الإنسان والعالم، مع احترام تام ومتبادل لكل نقاط الاختلاف والتمايز.

وهذا أيضا بطبيعة الحال، لا يعني أن نقبل بعمليات الإساءة التي يتعرض لها رسول الإسلام ﷺ من خلال رسوم كاريكاتورية أو أفلام مسيئة للقرآن الحكيم أو رموز الإسلام الأخرى. إننا نرفض وندين كل أشكال وعمليات الإساءة إلى الأديان أو الأنبياء أو الكتب المقدسة. ونعتبر أن هذه الإساءات لا تنسجم وقيم الحوار ومبادئ الأديان التوحيدية. ونتطلع إلى العمل مع كل المعنيين في العالم، إلى صياغة وثيقة تجرم الإساءة إلى الأديان ورموزها.. ونحن هنا نفرق بين عملية حرية الرأي والتعبير وعمليات الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية. فليس من حرية الرأي، أن تسيء إلى مقدسات الآخرين. ولا توجد منظومة قيمية واحدة، لا تفرق بين حرية الرأي والتعبير ومسألة الإساءة إلى المقدسات.

فنحن مع صيانة حرية الرأي والتعبير، ولكننا ضد الإساءة إلى الأديان ومقدسات الآخرين.. ووظيفة الوثيقة الدولية، التي نطالب بالعمل من أجل إنضاج شروط الوصول إليها، هو بيان الفرق الجوهري بين حرية الرأي والتعبير وعملية الإساءة إلى الأديان والمقدسات.

وفي السياق العربي الإسلامي، من المهم أن لا نحمل شركائنا في الوطن والقومية، أعني المسيحيين العرب والمشرقيين عموما، أخطاء الغرب وتصرفاته المشينة إلى الإسلام ورموزه المقدسة. فهم بريئون من هذه الخطيئة والخطايا. ومهمتنا الدائمة على هذا الصعيد هو العمل على تطوير نظام علاقاتنا الداخلية مع كل الشركاء والمكونات. وذلك من أجل إفشال كل التوجهات والمخططات، التي تستهدف بعناوين دينية أو مذهبية أو قومية، تفتيتنا وتجزئتنا.. فنحن نصون وحدتنا الداخلية، بتطوير نظام العلاقة الداخلي بين مختلف المكونات والتعبيرات. وهذا يتطلب منا جميعا العمل على الآتي:

1 – إشاعة وتعميم ثقافة الحوار والتسامح والقبول بالآخر، وهي قيم أساسية وضرورية لتنظيم العلاقة بين مختلف المكونات والتعبيرات الدينية والمذهبية والقومية الموجودة في الاجتماع العربي والإسلامي.

فالآخر ليس مشروعا للنفي أو الإقصاء والتهميش، وإنما هو مشروع للتعارف والتواصل ونسج العلاقات الإيجابية معه. والاختلافات والتباينات الأيدلوجية والفكرية والقومية، ليست مبررا لممارسة الإقصاء والنبذ. وإنما على العكس من ذلك تماما، حيث أنها مدعاة للفهم والتفاهم والتلاقي على الجوامع المشتركة، والإعذار المتبادل في كل نقاط التباين وموضوعات الاختلاف.

2 – نبذ خطابات التعميم وإطلاق الأحكام الجاهزة والمطلقة على الآخر المختلف والمغاير. فحينما يرتكب أي إنسان خطيئة، ينبغي أن نحمله وحده مسؤولية خطئه. ومن الظلم الفادح بحقنا جميعا تجاه بعضنا البعض، هو تعميم الأخطاء، وإطلاق أوصاف ونعوت جاهزة ومسيئة على الجميع. فالخطأ الفردي، لا يتحمل وزره الجميع. فحينما يخطأ إنسان مثلا من المسيحيين، ينبغي أن لا نحمل كل المسيحيين وزر هذا الخطأ وهكذا بقية المجتمعات والكيانات الثقافية.

فخطابات التعميم، وإطلاق الأحكام الكاسحة والسلبية، بحق أمم بأسرها أو مجتمعات كاملة، يقود إلى الظلم والتعدي على حقوق وحرمات الآخرين. كما أن مقتضى العدالة هو عدم التعميم، وأخذ الجميع بجريرة البعض. لذلك يقول تبارك وتعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ويقول عز من قائل { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ، ويقول سبحانه وتعالى { ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} . فالاختلافات والتباينات مهما كان حجمها ومستواها، ليست مسوغا للخروج عن مقتضيات المساواة والعدالة.