#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
– يُجمع المسلمون على تعظيم السيّدة خديجة عليها السلام، وعلى تكريمها وتقديرها. وهم متّفقون على أنّ لها مكانةً عالية، ودرجةً رفيعة وشأناً عظيماً، وهذا ممّا لا نقاش فيه. وكتب الشيعة والسنّة زاخرة بهذا المعنى، بل حتّى عندما يتحدثّون عن فضلها، فإنّهم ينقلون الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّه هو الشاهد الأساس في تحديد الفضل والمقام والدرجة لها، وهم ينقلون رواياتهم بعبارات متطابقة أو متقاربة ومتشابهة جدّاً، من حيث المعنى والمضمون.
• خديجة عليها السلام خير النساء
لم تصل السيّدة خديجة عليها السلام إلى هذا المقام لا بنسبٍ ولا بحسبٍ ولا بزواجٍ، وإنّما بإيمانٍ وعملٍ صالحٍ، وجهادٍ متواصلٍ، وصبر عظيمٍ.
عندما يتحدّث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتعبيرات مثل “أفضل نساء العالمين”(1)، أو “خير النساء”(2)، أو “حسبك من نساء العالمين”(3)، أو عندما يصف بعض النساء بأنهنّ أفضل نساء العالمين، فإنّه يقصد آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون، والتي ضربها الله مثلًا للّذين آمنوا في القرآن، والسيّدة مريم بنت عمران، والسيّدة خديجة بنت خويلد، والسيّدة فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنّ السيّدة خديجة كانت تقدَّم في الذكر في روايات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النساء الأخريات اللواتي هن الأعظم، والأرقى، والأفضل، والأعلى شأناً بين جميع النساء.
• سلامٌ من الله وجبرائيل عليه السلام
في حديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال -وهذا الحديث موجود عند الشيعة والسنّة- “إنّ جبرائيل عليه السلام قال لي ليلة الإسراء حين رجعت وسألته: يا جبرائيل هل لك حاجة؟ قال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنّي السلام”(4). هل ثمّة أعظم من أن يسلّم الله عليها، ويسلّم عليها جبرائيل، ناقل الوحي والروح الأمين الذي ينقل القرآن، وينزله على قلب رسول الله؟ وحين أبلغها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام من الله وجبرائيل قالت: “إنّ الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام، وعلى جبرائيل السلام”(5). في هذه الإجابة علم، وحكمة، ورصانة، واتّزان.
وقد تكرّرت هذه الحادثة مرّتين؛ ففي إحدى المرّات، عندما ذهبت لتوصل الزاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجبل في غار حراء، حيث كان يعتكف ويتعبّد مدّة شهرٍ كامل، ومن شدّة محبّتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تأخذ له الزاد بنفسها، وتجتاز مسافة طويلة، إذ كان المكان يبتعد عن مكّة ثلاثة أميال، فضلاً عن صعودها ذاك الجبل المرتفع جدّاً -مع الإشارة إلى أنّ الحجّاج عندما يصعدونه يشعرون بالتعب، حتّى الشباب منهم- مع العلم أنّها كانت تستطيع تكليف إمائها وعبيدها وخَدَمها بهذه المهمّة، ولكنّها أبت إلا أن تقوم بذلك بنفسها. أيضاً في هذه الحادثة، تنقل بعض الروايات أنّ جبرائيل أبلغها سلام الله وسلامه، فكان الجواب نفسه.
• للثناء عليها
يُروى أنّ بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة كنّ يكرّسن السيّدة خديجة كقدوة وأسوة ومثال. وتذكر إحدى الروايات: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها”(6).
• هذه هي خديجة عليها السلام
هي السيّدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّة بن قصيّ. كانت من خيرة نساء قريش شرفاً، وأحسنهنّ جمالاً، وأكثرهنّ مالاً؛ إذ كان لديها تجارات واسعة وأموال وافرة، حتّى إنّ بعض الكتّاب أو المحقّقين اعتبروا أنّ تجارة خديجة في ذلك الوقت وأموالها كانت تشكّل عصب الاقتصاد في شبه الجزيرة العربيّة. وكانت تُدعى في الجاهليّة بالطاهرة، حيث التفلّت الأخلاقيّ والعقائديّ والانحرافات، وكان يُقال لها “سيّدة قريش”.
يحدّثنا التاريخ عن سيّدةٍ عاقلةٍ، وحكيمة، وذكيّة جدّاً، وعفيفة وطاهرة، ولم يكن ينقصُها شيء ممّا تحتاج إليه في دنياها من حسبٍ، ونسبٍ، وشرفٍ، ومالٍ، وغنى، ورفاهية، ومكانة اجتماعيّة، وعُلوّ شأن دنيويّ. ولذلك يقال إنّ زعماء قريش في ذلك الحين، ووجهاءها، وكبراءها، وأغنياءها كلّهم كانوا يطمعون في الزواج منها، وتقدّموا لخطبتها، ولكنّها كانت ترفضهم جميعاً، مثل أبي سفيان، وأبي جهل المخزوميّ، وعقبة بن أبي المُعيط.
• زواجها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
كانت السيّدة خديجة معروفة في مكّة وفي قريش، ولا يخفى على أحد أخبارها وأنباؤها. ومحمّد بن عبد الله كان شخصيّة معروفة في مكّة وفي قريش، وهو الصادق الأمين الخلوق العظيم في أخلاقه، وسيرته، وسلوكه، ونسبه، وحسبه، وشرفه.
1- التجارة مقدّمة للزواج
تعرّفت السيّدة خديجة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن اقترح عليه عمّه أبو طالب أن يشاركها في التجارة (المضاربة)، فوافقت على هذه الشراكة لما كانت تسمع من أمانته وصدقه وصفاته المعروفة. ولكن ماذا فعلت السيّدة خديجة بعد ذلك؟ لقد أرسلت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غلامها “ميسرة”، وطلبت منه أن يلازمه ليلاً ونهاراً، ويراقبه في بيعه وشرائه وتعاطيه مع الناس، وأن يرسل إليها تقريراً مفصّلاً بذلك، وكأنّها أرادت أن تطابق مسموعاتها مع الشهادة المباشرة لغلامها، الذي تثق به، في مهمّة مشتركة من هذا النوع. ويقال إنّ هذه كانت الرحلة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام، رحلة التجارة في أموال خديجة عليها السلام. وقد عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة بأرباح مضاعفة، ففوجئت خديجة، سيّدة الأعمال والمرأة التي لديها خبرة واسعة في الأعمال التجاريّة وصاحبة التجارب؛ إذ الأرباح كانت كبيرة جدّاً، وهو ما أسعدها، ولكنّ فرحها كان أعظم بأخبار “ميسرة” الذي كان قد نقل إليها بدقّة عظيم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسنة، وسلوكه، وأمانته، ودقّته، وصدقه، ونقاءه، وصفاءه وشفافيّته. وهذا العمل المشترك كان المقدّمة لزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسيّدة خديجة عليها السلام.
2- حصول الزواج
تنقل كتب التاريخ أنّ بعض الأشخاص سألوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لِمَ لم تتزوّج؟ فأخبرهم بأنّه يفتقر إلى الأموال الكفيلة بإدارة حياة عائليّة بالطريقة المناسبة واللائقة، فأشاروا عليه بالسيّدة خديجة. وثمّة من يقول إنّ السيّدة خديجة هي التي عرضت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون زوجته لصفاته العظيمة، بعدما كانت ترفض كلّ مَن يتقدّم إلى زواجها. وهذا ما حصل، فتقدّم عمّه أبو طالب عليه السلام بطلبها من عمّها عمر بن أسد. وفي خطبة منقولة في كتب السيرة عن أبي طالب يمدح فيها محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو شابّ عمره 25 سنة، تبيّن مستوى قناعة أبي طالب به: “ثمّ إنّ ابن أخي هذا ممّن لا يوزن برجل من قريش إلّا رجح به، ولا يُقاس به رجل إلاّ عظُم عنه، ولا عدلٌ له في الخلق، وإن كان مُقلّاً في المال فإنّ المال رِفدٌ جارٍ، وظلٌّ زائل، وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها”. إلى أن يقول: “وله -أي لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم- وربّ هذا البيت حظٌّ عظيم ودِينٌ شائع ورأيٌ كامل”. وهكذا حصل الزواج المبارك.
(*) خطبة رمضانيّة لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، تاريخ 8/5/2020م.
1.المستدرك، النيسابوري، ج2، ص594.
2.سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، ج2، ص113.
3.مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص104.
4.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج16، ص7.
5.(م.ن).
6.الاستيعاب، ابن عبد البرّ، ج4، ص1824.