#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– قبل ما يقارب 80 سنة وقبل وقوع النكبة بــ12 سنة انطلقت صرخة الإمام ابن باديس رضي الله عنه مستشرفاً المستقبل : “ يا عرب إما فلسطين أو الموت “ .. فسجل موقف الجزائر في سفر التاريخ هاتفاً باسمها كلها : “ من الموتى في الأجداث إلى الأجنة في الأرحام “ معلنا موقف الأخوة والعقيدة والشرف تجاه فلسطين وقد شرح بمنهجية حضارية حقيقة الصراع وطبيعته .. مؤكداً أنه عدوان استعماري غربي ضد قلب العروبة لقسم بلاد العرب وإثارة الفتن فيه .
– أما الشيخ البشير الإبراهيمي والذي تزعم المؤتمر الإسلامي في القدس من أجل فلسطين والذي أصبح الأكثر من علماء المسلمين دفاعاً عن فلسطين فيقول : “ أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين ، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها ، لا والله ، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى “ ، وأما هواري بومدين رحمة الله عليه الرئيس الذي وقف بكل قوة الجزائر خلف انطلاق الثورة الفلسطينية وانتزع لها القرارات الأممية والعربية وكان سياجاً حامياً لها من القريب والبعيد فلقد نطق بلسان الجزائر كلها : ” نحن مع فلسطين ظالمة ومظلومة ” .
– إنه الوعي الجزائري المتميز لطبيعة الصراع وغاياته ، الوعي المكتسب من معاركة الصراع الطويل مع ألوان الاستعمار وأساليبه الخبيثة ، ولهذا اندفع الجزائريون بكل قوتهم لإحباط المؤامرة على فلسطين وان لم تسعفهم المسافة إلا أنهم ظلوا يحملون اليقين ويبعثون التفاؤل والأمل والإسناد لشعب تربطهم بهم روابط الدم والحضارة والعقيدة.. ولعل هذا اليقين يضيء لهم دروب النهضة والتوسع في دورهم الإقليمي في مجالهم الحيوي .
– طبيعة الصراع :
– لقد غشي الضباب على رؤية طبيعة الصراع لدى الكثيرين حتى بعض المنهمكين بالنضال الأمر الذي اذهب كثيرا من التضحيات بلا مردود في محصلة الصراع .. وهنا من الضرورة أن نلجأ إلى تاريخ العلاقة بشمال المتوسط التي لم تأخذ شكلا سلميا على مدار عدة قرون وبعد أن تمكنت قوى الاستعمار من احتلال أجزاء من جغرافيا إستراتيجية للأمة تقدموا لتكريس التجزئة في بلاد العرب بحدود عسكرية فنال بلاد الشام من ذلك النصيب الأبشع على اعتبار أن هذا الموقع الاستراتيجي يفصل مسلمي أسيا عن مسلمي أفريقيا بكيان عنصري أي بالتغريب من خلال تكتل بشري ويتم ترتيب الدول في المنطقة ترتيباً طائفياً يشل فعلها ويعطل أي مشروع تحرري داخلها .
– وبمتابعة مسيرة الوعي في المنطقة يمكن رصد حالة التقهقر في التعامل مع القضية الفلسطينية فرغم ان الفعل العربي والإسلامي كان متدنيا في البداية الا انه انتهى الآن إلى ترك فلسطين وحدها تواجه مصيرها .
– فلقد استمر فترة طويلة بشعارات لا إعتراف ولا صلح مع الكيان الصهيوني إلى مبادرات عربية في مؤتمرات قمة تعترف بشرعية وجود إسرائيل على80 بالمائة من أرض فلسطين مقدمة أطروحة الأرض مقابل السلام والتطبيع كما حصل في مؤتمر القمة العربية في بيروت ولم يتوقف الأمر عند هذه النقطة بل اتجه الى الأخطر ان تنخرط أنظمة عربية وإسلامية في علاقات أمنية واقتصادية مع المستعمرين ضاربة بعرض الحائط مظلومية الشعب الفلسطيني .. ويبلغ الأمر منتهى سوئه عندما تتجه بعض الأطراف العربية الى ممارسة مزيد من الضغط على الفلسطينيين للتنازل عن أجزاء من حقهم في الأرض أو العودة .. بل عشنا مراحل الهجوم المسلح من قبل بعض الأنظمة على قواعد الثورة الفلسطينية وارتكاب مجازر بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن والعراق وأخيراً في مخيمات الفلسطينيين في سورية .
– لم يدرك النظام العربي على أحسن الظن به ان تمكين الكيان الصهيوني يفترض إضعاف المنطقة العربية وإدخالها في صراعات بينية وداخلية لان ذلك هو الضمانة الحقيقية لاستمرار تفوق الكيان الصهيوني فضلا عن وجوده.. ولم يدرك النظام العربي على أحسن الظن ان الكيان الصهيوني ما هو إلا أداة استعمارية والأدوات الأخرى موجودة ومنتشرة في الداخل والخارج وكلها تشتغل بتنسيق عالٍ لإرباك الدول وتفتيتها و حرمانها من إيجاد علاقة حسنة مع الشعوب والقيام بابتزازها من قبل قوى يتم صناعتها غربياً .
– لقد غاب الوعي بطبيعة الصراع الدائر .. وفي أحسن الأحوال كان يمكن إعلان مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني ومحافظة على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني .. ورغم أخلاقية الموقف ، إلا أنه دون فهم جوهر الصراع وطبيعته ولذلك فهو لن تصمد كثيراً .
– الصراع الحقيقي يدور بين الأمة كلها وفي مقدمتها العرب من جهة و الاستعمار بأدواته المترابطة من جهة أخرى .. كما قال الإمام ابن باديس في رؤيته الحضارية للصراع على ارض فلسطين. فلا نهضة ولا وحدة ولا سيادة ولا سلام ان تركت فلسطين للاستيطان الصهيوني .. لكن النخب العربية استبدلت هذا الصراع بألوان أخرى من الصراع الأيديولوجي الذي مزق صف الأمة وبعثره وأثيرت النعرات الجاهلية كلها العرقية والطائفية والجهوية والطبقية وكان ذلك كله بمثابة ملهاة حقيقية عن الصراع الحقيقي .. واندلعت الحروب داخل الأمة ولازالت، مستنزفة ثرواتها، ومبددة الاستقرار فيها وقد أصبح بعضها في عداد الدول الفاشلة كالعراق واليمن وليبيا وسورية وفاتحة مستقبلها على المجهول .
– الأداء الفلسطيني :
– بلاشك واجهت مقاومة الشعب الفلسطيني تحديات خطيرة ، حيث قدر لها أن تكون في التضاد مع الإرادة الدولية للمعسكرين الرأسمالي والاشتراكي الذين توافقا على وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين منذ الحرب العالمية الأولى رغم ما يبدو بينهما من تباينات وكان هذا يعني بوضوح ان الفلسطينيين يقفون في وجه القرار الدولي الذي انهمك في تزويد الكيان بكل مقومات التفوق الاستراتيجي على المنطقة فزوده الاتحاد السوفيتي بخيرة الضباط والمستشارين والجنود واللاجئين .
– حيث يبلغ من هاجر من روسيا إلى فلسطين أكثر من مليون شخص نصفهم ليسوا يهودا وحتى اليهود ينتمون إلى قبائل الخزر أي الذين تهودوا مؤخراً أما الغرب الرأسمالي فلقد أخذ على عاتقه التزويد بالمال والسلاح والضغط على العرب وصرفهم عن الانشغال بالقضية الفلسطينية .. هذا صحيح تماماً وهو أمر خطير بلاشك إلا أن عدم اليقين بطبيعة الصراع وجوهره أفقد المنخرطين في الكفاح القدرة على إبداع أدوات تترجم الوعي فتحشد من الطاقات ما يناسب الصراع وتعتمد إستراتيجية تأخذ بعين الأهمية ما يمكن ان يترتب على الصراع في المنطقة ولغياب فهم استراتيجي حضاري بمستوى القضية الفلسطينية المرتبطة بمشروع نهضة امة واستقلالها حدثت تنازلات جوهرية لدى المنخرطين في النضال ضد المشروع الصهيوني فمن المطالبة بفلسطين كلها إلى المطالبة ب20 بالمائة منها ومن كون المنظمة الفلسطينية ممثلة لكل الشعب الفلسطيني إلى سلطة لا تمثل إلا اقل من 20 بالمائة من الشعب الفلسطيني .
– كما ترك الحديث نهائيا عن مليوني فلسطيني في العمق الفلسطيني .. وانتهى الوضع الى حالات من الهدنة المذلة وفق سياقات سياسية وأمنية بحيث أصبح التداخل في المهمات مربكا إلى حد كبير لعملية النضال الفلسطينية جملة.. واختتمت الحركة الفلسطينية مسيرتها بانشطار مأساوي في التوجه والتعامل وهنا لا فائدة من التوجه لتحميل المسئولية او توزيع نسبها لأحد الطرفين لأنهما معا مشتركان في تكريس الفوضى في الفعل الفلسطيني والأخطر توزيع ما بقي من فلسطين بين غزة والضفة على مكونين سياسيين فلسطينيين أصبحا أكثر إرهاقا وتعبا في مواجهة عدو يفاجئهما بمخططات الضم والتغيير الديمغرافي في القدس وتغيير معالم الأرض وتهويد المقدسات وصولاً إلى التقاسم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي و السطو على ممتلكات كنيسة القيامة والأرض المقدسية جملة ومزيد من مشاريع الاستيطان والعقاب الجماعي في حين أصبحت الحركة الفلسطينية غير قادرة لأسباب عديدة إلا بالتلويح بأنها لن تلتزم بالاتفاقيات يغيب عنها ان الكيان الصهيوني هو الذي تجاوز هذه الاتفاقيات التي لم تكن في أصلها إلا لكسب مزيد من الوقت لتمرير الاستيطان والتطبيع في المنطقة العربية.
– فلسطين من جديد :
– صحيح أن الكيان الصهيوني يتحدث بلغة عالية الوتيرة ويتحرك بسرعة نحو فرض وقائع على الأرض وصحيح ان الطبقة السياسية الفلسطينية منهكة ومنخرطة في أوضاع تحسين المعيشة و تفاهمات جزئية وفاقدة القدرة على إحداث تغييرات جوهرية في واقع الصراع الدائر وعاجزة عن الرد بما يلائم على الخطوات التصعيدية الاستيطانية فضلا عن المقاومة ضد الوجود الصهيوني في الضفة الغربية فضلا عن المطالبة بتفكيك الكيان الصهيوني .. وصحيح أن الانقسام البغيض في الكيان السياسي الفلسطيني مرهق ومتعب للشعب ومسيء لنضاله و مبدد للطاقة .. ورغم كل ما يمكن أن يقال عن الواقع العربي والإسلامي .. إلا أننا نرى معطيات أخرى إن قمنا بتوسيع دائرة الرؤية .
– فكما أن الكيان الصهيوني وليد المشروع الاستعماري فهو حتما سيتأثر بقوة دفع المشروع الاستعماري في منطقتنا وهو بالحتم مرتبط مع جملة المصالح الاستعمارية في منطقتنا.. من الواضح أن هناك تنازلا جزئياً أوربياً عن المشروع الصهيوني وما الاستجابة لحملات المقاطعة في كثير من المدن الأوربية إلا إشارة واضحة للمرحلة التي تقف عندها أوربا اتجاه الكيان الصهيوني .. فرغم أن الدول الأوربية هي الداعم الأول على الأقل ظاهريا لقيام دولة الكيان الصهيوني إلا أنها تدرك ان المنافع الكبيرة التي تجنى من وجود الكيان الصهيوني تعود لأمريكا بشكل مباشر وبشكل غير مباشر للروس وسواهم .. ورغم اللوبيات الصهيونية في الغرب ورغم استنفار دوائر استعمارية مع الصهيونية الآن أن الرأي العام الأوربي يعلن بوضوح تقديره بان الكيان الصهيوني هو المتسبب الأكبر بالفلتان الأمني في العالم ولقد أصبح كثير من قادة الكيان الصهيوني مطالبين للمحاكم في حال وصولهم الى العواصم الأوربية كما لا يخفى على صانع القرار الأوربي ان الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني يقود إلى خسارات فادحة في المنطقة العربية على الصعيد الشعبي على الأقل .
– من جهة السياسة الأمريكية فهي معنية بشكل كبير بحروب كبرى تجري في العلن والخفاء مع الصين وروسيا ومن يسير في فلكهما والأمر خطير بالفعل الأمر الذي دفع الأمريكان الى انسحاب جزئي من المنطقة والانتقال الى بحر الصين والدرع الصاروخية و حرب الجمارك والضريبة .
– جاءت كورنا لترتيب أولويات الأمن القومي الأمريكي وتحمل الموازنة الأمريكية تكلفة باهضة .. جاءت كورنا بعد تقييم للسياسة الأمريكية في الحروب الخارجية طلع منها الأمريكان مثقلين بالديون والعجز في الموازنات.. ولهذا حاولت أمريكا لأول مرة تقديم ورقة حل صفقة القرن يتم بموجبها قيام دولة فلسطينية على جزر جغرافية ورفض أمريكي لأي عملية ضم استيطاني صهيوني جديد قبل الموافقة على دولة فلسطينية.. ورغم أن هذه الخريطة ” صفقة القرن “ عدوان سافر على الشعب الفلسطيني إلا انه لابد من النظر إليها على أنها أول مرة يقدم الأمريكان حلا فيها تنازل جزئي عن المشروع الصهيوني .. ولعل الجميع يدرك إن الأمريكان هم من أفشلوا اتفاقية أوسلو الأوربي وأنهم أكثر تطرفا من قادة الكيان الصهيوني تجاه فلسطين .. فأي تنازل ولو جزئي من قبلهم لا يأتي صدقة ولا حسن نية ولا اقتناعا بحق إنما ضمن حسابات إستراتيجية تعني بان ثقل الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني سيشكل عبء على الخزينة الأمريكية في ظل معارك كبيرة تخوضها الولايات المتحدة.. فيكفي للولايات المتحدة ان تؤمن وجود الكيان الصهيوني وأمنه من خلال علاقات وثيقة بأنظمة الطوق العربية وانتزاع اعتراف رسمي فلسطيني بشرعية وجود الكيان الصهيوني والصلح معه .. ولكن من الواضح ان هذه المراهنات غير مضمونة لا على الصعيد الفلسطيني ولا العربي .
– الوضع الدولي هذا يقابله فشل ذريع لعمليات التطبيع في المنطقة العربية مع الكيان الصهيوني فرغم البربوغندا الصهيونية إلا أن المنطقة غير قابلة للتعايش مع الكيان الصهيوني، والصهاينة لا يدخلون بلاد العرب إلا تسللا و في أجواء مريبة، فعملية التطبيع محدودة ونخبوية جداً ، الأمر الذي ينعكس عليه اضطراباً وقلقاً وجودياً وتنافراً اجتماعياً وصراعات عنصرية داخله .
– هنا يتوفر المناخ والظرف الملائم لفعل فلسطيني وعربي وإسلامي استراتيجي للعودة إلى الحياة.. فمن المحتمل جدا ان يخف الضغط الأمريكي على العرب وستتحرك في هذا المناخ عوامل كانت مجمدة وسيجد الكيان الصهيوني نفسه في مواجهة قوى تتنامى برؤية حضارية لتفكيك العنصرية وإعادة السلام في منطقة حرمت منه منذ مائة عام أو أكثر .. والله غالب على أمره .