#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– في السابع عشر من نيسان الماضي بدأت سلسلة اعتصامات واحتجاجات طلابية من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، دعا فيها الطلبة إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ووقف تعاون إدارة جامعاتهم مع جامعات إسرائيلية، وسحب استثماراتها من الشركات التي تدعم الاحتلال والحرب، والسماح لهم بحرية التعبير. كرة ثلج أخذت تتدحرج بانضمام نحو مئة من الجامعات الأميركية إلى الجامعة المذكورة حتى امتدت لتغطي عددا كبيرا من الجامعات على مستوى العالم وخاصة في المملكة المتحدة وعديد الدول الأوروبية.
حالة غضب عمت الأوساط السياسية والعسكرية في إسرائيل. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدا في تسجيل مصور مذعورا وهو يعلق على هذه الاحتجاجات، ووصفها بأنها معادية للسامية وشبهها بما حدث في ألمانيا النازية في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، ودعا الى إدانة سلوك الطلاب في الجامعات الأميركية مثلما دعا المسؤولين المحليين والفدراليين في العاصمة وفي الولايات إلى التدخل ووضع حد لحركة الاحتجاج.
إدارات عدد من الجامعات استدعت الشرطة لتفكيك خيام الاعتصامات، وكان منظر الشرطة في تصرفاتها مع الطلبة أقرب الى الشرطة في بلد متخلف تحكمه طغمة ديكتاتورية فاسدة. كما وقف عديد أعضاء الكونغرس الأميركي خلف الشرطة وهددوا رؤساء الجامعات وطالبوهم بالتصرف كوكلاء لأدوات القمع، قمع الحريات الأكاديمية وحرية التعبير والحق في الاعتصام والاحتجاج. رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، وعدد من أعضاء المجلس، تصدروا التحرك المعاكس في مشهد أعاد الى الذاكرة عهد جوزيف مكارثي في خمسينات القرن الماضي، الذي شن حملة محمومة ضد ما وصف في حينه بـالخطر الشيوعي، حين أعلن عن قائمة تضم 205 من الموظفين يعملون في وزارة الخارجية الأمريكية، يشتبه بأنهم شيوعيون، ثم ما لبث أن وسع القائمة لتضم الكتاب والصحفيين والمفكرين وصناع الدراما والسينما، مثل ليون كامين، إبن حاخام تاونتون في ولاية ماساتشوستس، الذي أصبح لاحقاً أحد أبرز علماء النفس في الولايات المتحدة الأميركية والاقتصادي في مجال التنمية غوستاف باباناك، الذي فرت أسرته من أوروبا مثل أسرة ليون كامين مع تصاعد المد الفاشي في أوروبا الشرقية مطلع القرن الماضي.
تحطمت المكارثية بعد سنوات من المعاناة عاشتها نخب سياسية وأكاديمية واقتصادية في الولايات المتحدة وتم تحصين هؤلاء من عنف الملاحقة والاتهامات الظالمة . معاداة الشيوعية لم تعد ” صنم العبادة ” لأولئك المعادين للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. معاداة السامية هي الأخرى “صنم عبادة “، ولكنها صنم عبادة من نوع مختلف، يجري توظيفه في خدمة سياسة لا علاقة لها بالموقف من اليهود كيهود او من الديانة اليهودية، فهذه مسألة تجاوزها العالم منذ زمن بعيد، هي ” صنم عبادة ” ليس لها من وظيفة غير حماية دولة الاحتلال وتكريس التعامل معها كدولة استثنائية، لا تخضع للمساءلة أو المحاسبة. فهل نحن في الطريق نحو تحطيم هذا الصنم من خلال تقديم رواية جديدة عن نكبة متواصلة يعيشها الشعب الفلسطيني منذ قيام هذه الدولة.
أكثر من عامل مساعد يلعب دورا في هذا الاتجاه، وهي عوامل تفعل فعلها من داخل ومن خارج منطقتنا، جديدها يثير الفزع في الأوساط الحاكمة في دولة الاحتلال الاسرائيلي، فإسرائيل لم تعد الدولة الاستثنائية، التي لا يسائلها أحد عن أفعالها وأعمالها الإجرامية، قادتها جمهورية جنوب أفريقيا من أنفها ورغما عنها إلى محكمة العدل الدولية، أما الجامعات في الولايات المتحدة وغيرها في كثير من دول العالم فقد مزقت ستار الخداع، الذي مارسته إسرائيل مع العالم على امتداد عشرات السنين. هذه الجامعات انتفضت احتجاجا على حرب الإبادة، التي يقوم بها جيش الاحتلال وأودت بحياة نحو 35 ألف مواطن فلسطيني ونحو 80 الف جريح، فضلا عن المفقودين، وحولت قطاع غزة الى مكان غير صالح للحياة والعيش، ورفعت مطالب واضحة تدعو إلى وقف هذه الحرب ووقف إمداد جيش الاحتلال بالسلاح، ووقف تعاون الجامعات الأميركية مع مؤسسات إسرائيلية تشارك في الحرب، فضلا عن سحب استثمارات هذه الجامعات في هذه المؤسسات. هذه الجامعات مزقت ستار الخداع الاسرائيلي وأكدت أن معاداة السامية مجرد صنم عبادة ينبغي تحطيمه.
أبعد من ذلك، فإن عددا غير قليل من هؤلاء الطلبة يعتنقون الديانة اليهودية، ويرفضون ان تتحدث دولة الاحتلال باسمهم، ومن بين هؤلاء من جرى اعتقالهم على أيدي الشرطة التي دهمت الجامعات، كما علا صوت قامات سياسية وإعلامية يهودية في الولايات المتحدة وغيرها تستنكر جرائم الحرب في قطاع غزة، وتدعو لوقف الحرب، وتستنكر استخدام معاداة السامية كأداة من أدوات قمع الرأي الآخر أو منصة دفاع عن ما يسمى حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ومنصة ترهيب الآخر بحجة معاداة السامية. السيناتور بيرني ساندرز وجه رسالة مفتوحة لبنيامين نتنياهو، أكد فيها أن لا علاقة بين الاحتجاج على قتل عشرات آلاف المدنيين وتدمير الجامعات والمستشفيات ودور العبادة وتدمير مدن وقرى بكاملها وبين معاداة السامية، أما الكاتبة الكندية اليهودية نعومي كلاين، فذهبت أبعد من ذلك حين كتبت في عيد الفصح اليهودي تدعو لكتابة “سفر خروج ” جديد أسمته ” سفر الخروج من الصهيونية”.
وهكذا نحن أمام واقع جديد، تجري فيه كتابة رواية جديدة عن الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي والنكبة الفلسطينية، رواية جديدة تنزع عن دولة الاحتلال صفة الضحية وصفة المعتدى عليه، لتبني على ذلك موقفا يجيز لها ارتكاب جرائم مروعة بحجة الدفاع عن النفس وتكبل الآخر بقيود ثقيلة تلغي حقه في الاحتجاج على هذه الجرائم. حتى الموقف من الحرب بحد ذاته لم يعد ينظر إليه كما كان في السابق، فحماس لم تبدأ الحرب مع إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، فالحرب قائمة ومتواصلة منذ عشرات السنين، وهي حرب إبادة وحرب تهجير واقتلاع وتدمير بدأت في العام 1948 وتواصلت بعد العام 1967. في العام 1948 دمرت إسرائيل أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية، وهجرت سكانها وحولتهم إلى لاجئين في دول الجوار وفي المهاجر والمنافي. وفي العام 1967 تواصلت الحرب بهدم حي المغاربة في القدس وقرى اللطرون الثلاث، عمواس وبيت نوبا ويالو، أما قلقيلية فنجت بالصدفة من التدمير، الذي يتواصل حتى اليوم.
في العام 1948 كان الفلسطينيون أمام حرب إبادة صممها قادة الحركة الصهيونية بدقة متناهية في ” خطة دالت” المرعبة، في القرى والبلدات التي تقع تحت الاحتلال، يجب وضع المواد المتفجرة في أساسات البيوت لتدميرها حتى يفقد أصحابها أمل العودة إليها. أيضا هذه الأيام نحن أمام “خطة دالت” جديدة أكثر رعبا. لا يجري وضع المواد المتفجرة تحت أساسات المنازل والبيوت والمصانع والمعامل والمخابر والجامعات والمستشفيات والمساجد وغيرها، بل يجري قصفها من الجو بقنابل غبية وأخرى ذكية من صنع الولايات المتحدة لتدميرها وتسويتها بالأرض.
في العام 1948 جرت العملية في غفلة من الرأي العام العالمي. كان العالم قد خرج للتو من الحرب العالمية الثانية ومآسيها، بما في ذلك مجازر الوحش النازي ضد اليهود وغير اليهود، ولم تكن وسائل الإعلام قد تطورت كما هي هذه الأيام. تصرف قادة العالم في حينه بطريقة مخجلة، صم، بكم، عمي، لا يتحركون، رغم ان تقارير منظمات دولية كانت تفيد بارتكاب جرائم حرب واضحة. تقارير مدير عمليات الصليب الأحمر الدولي، جاك رينيه، اختفت وتم حفظها في أرشيف منظمة الأمم المتحدة. أما تصريحات زعماء اسرائيل في حينه فلم يتوقف أمامها العالم. دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء اسرائيلي وجه في حينه رسالة للقادة الذين نفذوا الكثير من الجرائم، كجريمة دير ياسين، قال فيها: ” إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع .. تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش، انقلوا إلى الجميع، أفراداً وقادة، أننا نصافحهم ونفتخر بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل، وإلى النصر، كما في دير ياسين كذلك في غيرها، سنقتحم ونبيد العدو، ربنا لقد اخترتنا للفتح”. أما مناحيم بيغن مناحيم، الذي أطاح بحكم حزب العمل عام 1977، فقد تحدث هو الآخر باسم الرب، الذي اختاره لتلك المهمة الوحشية فقال بانه بدون دير ياسين ما كان ممكناً لإسرائيل ان تظهر للوجود ، فيما وصف اسحق شامير المجزرة بأنها كانت واجباً إنسانياً.
تأخرنا كثيرا، بل وقصرنا في تقديم روايتنا عن النكبة كما جرت للعالم، باعتبارها الفيصل بين الحقائق والأكاذيب والدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم ارتكابها، الأمر الذي سمح لفترة غير قصيرة لرواج الرواية الإسرائيلية، التي ادعت أن سكان فلسطين غادروا قراهم وبلداتهم ومنازلهم استجابة لنداءات من الخارج، وقد تأخر العالم في سماع روايتنا بقدر ما تأخرنا نحن في طرحها.
تغير الوضع هذه الأيام بعد جرائم الحرب المروعة وجرائم الإبادة الجماعية، التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة بعد الثامن من أكتوبر الماضي. جاء هذه المرة من يحمل روايتنا إلى العالم بشرارة أطلقتها جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة وامتدت لتغطي مئات الجامعات في هذا العالم، وبخطوة جريئة من جمهورية جنوب أفريقيا جلبت دولة إسرائيل إلى قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية، وهي رواية حطمت عددا من “أصنام العبادة” وقدمت اسرائيل كما هي، دولة في المنطقة ولكنها ليست دولة من دول المنطقة، هي دولة وظيفية وحسب.