#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– ستثبت الأحداث المستقبلية أن لمعركة طوفان غـ.ـزة آثاراً مهمة على طبيعة ومستقبل الصراع العربي الصهيوني في أساسياته، سواء على مستوى الخطاب أو البنية أو الدور الوظيفي، ولعل التحول الأساسي في هذا الإطار يكمن في ما جاء على لسان الرئيس الأميركي “جو بايدن”؛ -وهو عائد إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد زيارته لـ””إسرائيل”” مؤخراً-؛ إذ قال: “علينا العمل على إدماج “إسرائيل” في المنطقة”، وهذا الكلام يشكل تحولاً مهماً في الفلسفة التي قامت عليها “”إسرائيل”” أساساً، فهذا الكيان عرف نفسه على أنه يمثل النموذج الغربي السياسي والثقافي والأخلاقي والليبرالي للغرب في المنطقة، وطالما تبجح في ذلك، وإنه يعيش في منطقة متخلفة بعيدة عن الحضارة سكانها بداة مترحلون لا يعرفون معنى المدنية ويسكنون أرضاً تضم وتحتوي أهم الثروات في العالم إضافة إلى أهميتها الجيواستراتيجية سوّق الإعلام الصهيوني والفكر الاستشراقي هذه الصورة في الغرب إلى درجة أنها أصبحت صورة نمطية فيها تعظيم وإعلاء شأن لليهودي حامل رسالة الغرب الحضارية وتبخيس واحتقار وازدراء للعربي والمسلم المتخلف الذي لا يستحق إلا الشفقة ولاحقاً القتل بعد أن تحولت صورته النمطية إلى إرهابي على خلفية أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001م، ولو عدنا للخطاب “ال”إسرائيل”ي” السياسي والإعلامي وحتى الشعبي؛ لوجدنا تلك الصورة النمطية تتكرر في روايتهم لما حدث في السابع من تشرين بوصف أهل غـ.ـزة بالحيوانات، وإن ما يجري هو صراع بين الحضارة والمدنية والتخلف، وبين حملة النور والظلام لا بل إن بعض قادة الصهاينة دعوا علناً لضرب غـ.ـزة بالقنابل الذرية وإبادتهم بالكامل دون أن تثير تلك الدعوات الإجرامية والفاشية والنازية أية ردود فعل من العالم الغربي انسجاماً مع الصورة الذهنية التي أشرنا إليها وهي تبخيس صورة العربي والمسلم في المخيال والوعي الجمعي الغربي بفعل الخطاب الاستشراقي التي تبناها الإعلام الصهيوني في إطار خطاب العلاقات العامة والبروباغندا أي دعايته المنظمة.
– إن الدعوة إلى إدماج “إسرائيل” في المنطقة والتي جاءت على لسان الرئيس “بايدن” لم تأت من فراغ، فبعد الفشل الذي لحق بسياسة التطبيع عبر البوابات السياسية كان من الضروري ولوج بوابات أخرى ومنها الدبلوماسية الروحية من خلال الحديث عن الاتفاقيات الإبراهيمية، ومحاولة تسويق فكرة أبناء إبراهيم الجذر الشائع في الديانات الثلاث، والحديث أيضاً عن الولايات المتحدة الإبراهيمية، وتحديد جغرافيتها بمسار نبينا إبراهيم من العراق إلى مصر والحجاز وفلسطين، وهي في جوهرها تجسيد لمفهوم ومقولة “إسرائيل” الكبرى: “حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل” معطوفة على النص التوراتي المنسوب لرب يهوه مخاطباً سيدنا إبراهيم: “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”، علماً أن أحد قادة الصهاينة وهو من الضباط اليهود الذي قاتل في حرب حزيران عام 1967م قد قال: “إن الوصايا العشر التي نزلت على النبي موسى في سيناء لم تفيدنا والذي أفادنا هو البندقية فجئنا لسيناء لكي نعيد الوصايا العشر للنبي موسى؟”
– لقد أسقطت معركة طوفان الأقصى العديد من المفاهيم التي ارتكز إليها العدو الصهيوني، وحاول تكريسها لدى مستوطنيه ولدى شعوب العالم منها أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر وأنه يملك الذراع القوية القادرة للوصول إلى أي مكان إضافة إلى أنه لا يخوض حروبه إلا خارج حدوده وقادر على الحسم السريع لها ولصالحه، فجاءت معركة السابع من تشرين لتسقطها دفعة واحدة ليس هذا فحسب، وإنما تظهر الكيان على حقيقته بأنه بحاجة إلى حماية خارجية ليثبت للجميع أن عناصر بقائه واستمراره ليست داخلية، وإنما بفعل الحامل الخارجي وهو بريطانيا عند التأسيس والولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك وحتى الآن إضافة إلى أن هذا الكيان اعتمد في جلب المستوطنين على مسألتين إنه كيان مستقر وأن أرضه تفيض لبناً وعسلاً، إضافة إلى أن العرب في طريقهم إلى التطبيع معه بشكل كامل ليصبح حالة شرعية ومقبولة على المستويين الشعبي والسياسي، وإذا بهذه الصورة المخادعة تسقط دفعة واحدة بدليل التعاطف الشعبي العربي والإسلامي الواسع مع الشعب الفلسطيني، وخروج عشرات الملايين في الدول العربية والإسلامية وغيرها منددة بما يجري ورافضة لهذا العدو والجسم الغريب عن المنطقة وشعبها وتاريخها وثقافتها الأمر الذي أدى وسيؤدي مستقبلاً لهجرة معاكسة من هذه البؤرة الاستيطانية ما يفقدها أسباب حياتها واستمرارها، وهو تدفق المستوطنين والمهجرين إليها وهي التي تعاني من مشكلتي الاعتراف بالوجود والحالة الديمغرافية بالقياس لعدد الفلسطينيين العرب.
– لقد بدأ الحديث في أوساط سياسية معينة بما في ذلك أوساط صهيونية عن انتهاء الدور الوظيفي لهذا الكيان والمقصود بذلك أن “إسرائيل” وقيامها لم تكن أساساً فكرة يهودية خالصة بل كانت فكرة سياسية لبست اللبوس الديني لتحريك الأوساط اليهودية الشعبوية استثماراً في العاطفة الدينية بالحديث عن الأرض الموعودة، وبناء “الهيكل” والمسيح المنتظر وغيرها من مرويات دينية بهدف التحشيد والدفع باتجاه فلسطين، ولكن في الجوهر كانت الأهداف السياسية الغربية لجهة إقامة كيان استيطاني غريب عن جسم المنطقة الغربية ويقسمها شرقاً وغرباً، ويسقط فكرة أن ثمة وطناً عربياً بجغرافيته الواحدة وثقافته ولغته وتاريخه إضافة إلى دعم وتشجيع كل فكرة انفصالية في المنطقة من خلال السعي لإنشاء وتشجيع أية دعوات طائفية وعرقية وإثنية تضرب الهويتين الوطنية والقومية في الجغرافية العربية، وهو ما حصل فيما سمي الربيع العربي ناهيك عن وجود “إسرائيل” يحقق مصالح جيوسياسية للغرب، ويجعل المنطقة تعيش حالة من الصراع والحروب المستمرة، وهذا ينعش شركات السلاح وتروستات المال في الغرب إضافة للتخلص من اليهود الذين أصبحوا مشكلة للدول الغربية شرقيها وغربيها في ظل الحديث عن الدولة القومية والعلمانية وفكرة المواطنة، وهذا يتعارض مع طبيعة ونمط عيش وثقافة الجماعات اليهودية التي لديها اليهودية دين ودنيا ولاسيما أنهم يعيشون في أحياء خاصة بهم (غيتو) ما ولد كراهية لهم في أوساط عديدة ولاسيما في أوروبا الشرقية، فقد كره البولنديون اليهود بسبب أنهم كانوا وكلاء للنبلاء في بولونيا، وتولوا إدارة أراضيهم في الريف البعيد، وكانوا وسطاء بين النبلاء والفلاحين فجرى استغلالهم واستعبادهم كأقيان لصالح النبلاء الذين هم أعضاء في البرلمان البولوني لجهة أنهم نبلاء، ولابد لهم من أن يسكنوا في العاصمة بحكم عملهم، ويوكلوا لليهود إدارة الأراضي واستغلال الفلاحين ما ولد كراهية لليهود عند البولنديين والقيام بأعمال انتقامية تجاههم ما جعل اليهود يعيشون الخوف، ويسكنون في أحياء مغلقة لحمايتهم وفي يوم استراحتهم أو عيدهم يوم السبت تتم مهاجمتهم ما اضطر اليهود للاختباء في الكنس الخاصة بهم ووضع مسلحين لحمايتهم، إضافة إلى ما حدث في بولندا واجه اليهود نفس الحالة في روسيا القيصرية، حيث اتهموا بالتخطيط لإسقاط الحكومة القيصرية، فجرى التنكيل بهم ما دفعهم للهجرة إلى أوروبا الغربية التي كانت أساساً تعيش حالة عدم اندماج اليهود في المجتمعات الغربية بعد نشوء الدولة القومية والدولة العلمانية على خلفية مبادئ الثورة الفرنسية، فنشأ ما سمي المشكلة اليهودية التي هي في جوهرها مشكلة الأوروبيين مع اليهود وليس مشكلة اليهود مع أوروبا من هنا كانت الدعوات لإقامة وطن لليهود ليس بالضرورة في فلسطين، ولكن لأهمية وجاذبية العامل الديني استخدم واستثمر في هذا المجال، وكان الصهيونية المسيحية قبل الصهيونية اليهودية الأسبق في ذلك إذ انبرى رجال الدين البروتستانت لتبني الدعوة لعودة اليهود لفلسطين قبل بناء “الهيكل” عكس اليهود وقالوا إن تجميعهم بفلسطين سيسبق ظهور المسيح وبظهوره إما أن يبادوا وإما يؤمنوا به.
– فكانت الدعوة من قبل الكنيسة البروتستانتية اللوثرية والكالفنية لذلك علماً أن حاخامات اليهود رفضوها بداية بشكل قاطع ولكن تبني “هرتزل” لمشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وهو العلماني ساهم في إقناع الجماعات اليهودية بذلك.
– فالدور الوظيفي لذلك الكيان كان واضحاً منذ البداية سواء لجهة الخلاص من اليهود ومشكلة أوروبا معهم أو لجهة أن لـ”إسرائيل” وظيفة تتمثل في جانب منها خدمة مشروع غربي في جانب منه- كما أشرنا سابقاً (الدولة الحاجز)- ويتمثل بفصل غرب الوطن العربي عن شرقه وأيضاً دخول أو إدخال جسم غير عربي على المنطقة للقول إن المنطقة ليست كلها عربية وإن وطناً عربياً كذبة كبرى لذلك نرى التشجيع الغربي للكيانات الطائفية والعرقية وتشجيع كل من يضرب فكرة العروبة من شعوبيين جدد.
– الآن وماذا بعد السابع من تشرين الأول هل أوروبا هي أوروبا 1948م التي ساعدت في قيام الكيان ..؟
– وهل الجيل المؤسس لذلك الكيان من العتاة كـ”بن غوريون” و”شامير ورابين” و”بيغن” موجود أم أن ثمة جيلاً شاباً جاء ليعيش في أرض تفيض لبناً وعسلاً ..؟
– وعلى العكس من ذلك وعلى المقلب الآخر، هناك جيل فلسطيني شاب متمسك بأرضه ولديه استعداد عال للتضحية والموت وهو يدافع عن أرضه، وليس كما توقعت “غولدا مائير”: “الكبار يموتون والصغار ينسون”، وهو ما أثبتته الأحداث التي تحدث في غـ.ـزة وما سبقها من أحداث جرت في الضفة الغربية كان أبطالها شباب أعمارهم ما دون العشرين انبروا يواجهون القوات “الإسرائيلية” بصدور عارية يتحدون آلة القتل الصهيونية.
– لقد قلبت معركة طوفان الأقصى الطاولة على الجميع وخلطت كل الأوراق ووضعت القضية الفلسطينية في سياقها الفلسطيني ولم تعد ورقة بيد أحد يستخدمها الاستخدام الأداتي أو للمتاجرة السياسية ولاسيما أن العقل الصهيوني عمل خلال السنوات الأخيرة على إعطاء صورة جديدة لهذا الكيان عبر الهسبرا والدعاية المنظمة (البروباغاندا) التي استخدمها بمحاولة تغيير صورة الكيان النمطية من الجيش الذي لا يقهر والموساد القادر على تنفيذ كل شيء إلى صورة جديدة مؤداها أن “إسرائيل” قطب علمي في عالم التكنولوجيا الرقمية والذكاء الصناعي والزراعة المتقدمة وبالتالي محاولة تكريس صورة نمطية حضارية على قطيعة مع صورة سابقة صورة تستجيب لمفاهيم وضرورات القرن الحادي والعشرين واحتياجات جيل الشباب إضافة إلى أنها (الدولة الضرورة) لمن يسعى لامتلاك أدوات القرن الحادي والعشرين في لعب واضح على سيكولوجيا المتلقي استثماراً في فائض قوة إعلامية سخرت تاريخياً لخدمة المشروع الصهيوني.
– بقلم : خلف المفتاح – المدير العام لمؤسسة القدس الدولية ( سورية )