#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– لا يمكن أن يكونَ للحياة من حركة أو أثر بغياب الإنسان، إنه الجنس المحرك للوجود، وهو الذي يعطيه المعنى والقيمة، ولكن الفلسفات الحديثة قد ركزت جهودَها على تذويب وجود هذا العنصر المحوري المؤثر، وسعت إلى تغييبه تدريجيّاً ليخلو منه مسرح الحياة لحضور بديل تكفلت به نظریات ما بعد الحداثة تمثل في قسوة العلاقات المادية – الاقتصادية، بعد أن دُمّرت الذات الفاعلة، وقوّضت قواها المتماسكة لتعلن غيابها وترضى بموتها طائعةً أو مكرهة.
– هذا هو محور كتابنا هذا الذي سعى إلى دراسة فكرة تذويب الإنسان) وإخلاء ساحة الوجود منه بعد أن اعتلى قمة مجده وفعله في أزمنة سبقت ولا سيما مع النزعة الإنسانية، المستندة إلى فلسفة الأنوار في أوربا، وإلى تراث حضاري يعود إلى ما قبل الميلاد تمتع فيه الإنسان بحضور مؤثر في اليونان القديمة.
– أما عبارة تذويب (الإنسان هذه التي أصبحت عنواناً للكتاب فقد استعرتها من بعض دراسات كلود ليفي شتراوس الذي كانت له حصة كبيرة في تقرير هذه الفكرة وإخراجها الى الوجود، ولم يكن من السهل الوقوف عند هذه الفكرة، ورصد جذورها في كلمات عابرة، أو آراء متعجّلة، لذا احتاج الأمر إلى وقفات مطوّلة عند متعلّقات الإنسان ومثبتات وجوده وكان أولها تلك العلوم المتصلة بالإنسان نفسه التي دعيت (بالعلوم الإنسانية) على طريق المجاز وليس الحقيقة، فقد تعاضدت الفلسفات والدراسات المختلفة على نفي صفة العلمية عن هذه العلوم، وقصرها على علوم الطبيعة ذات الوجهة التجريبية القابلة للتشخيص والمعاينة والاختبار في حين وسمت العلوم الإنسانية بكونها لا تعدو أن تكون خطابات يكونها الإنسان عن نفسه، خالية من النتائج الدقيقة، غير خاضعة للتقويم والتصويب بأساليب حسابية دقيقة، لذا جاءت وقفتنا مع هذه العلوم لإزالة اللبس الحاصل في فهمها ، وتجلية صورتها، وبيان مجال عملها، وما تمتاز به من خصوصية من سواها لنصل من ذلك إلى مفهوم جديد لمصطلح (العلوم الإنسانية) يستجيب لطبيعتها المتصلة بالإنسان نفسه عند طريق الوقوف على مجال تطبيقي واضح تمثل بمسار النقد الأدبي الحديث.
– أما الإنسان نفسه، وماجرى عليه من إزاحة عن مركزه، وما سلّط عليه من تقويض لمفهومه فقد كان محور وقفة ثانية تضمنتها الدراسة المتصلة بفكرة التقويض، التي ما كان الإنسان إلّا بدايةً لها لتنطلق منه إلى ما ينتجه من نصوص، وإلى العالم الذي يقطن فيه، فالتقويض من القضايا الكبرى في عصرنا الحاضر التي تنطلق من مقدمة فلسفية لكنها تنتهي إلى نتائج عملية تتصل اتصالاً مباشراً بحياة الإنسان في هذه الأرض التي مزقتها الحروب المتواصلة مدفوعة بغريزة النهم الاقتصادي الذي لا يسد شهيته ما ينهال عليه من مال حرام من كلّ هذا العالم المخرّب بأسلحة الدمار الفتاكة التي تعصف ببنيه من دون تمييز أو رحمة.
كان من نتيجة ذلك أن أصبح الموت سمةً رئيسة من سمات عصرنا فبدأت سلسلة منه لا تريد أن تتوقف عند حد، فمن موت الإله إلى موت الإنسان إلى موت المؤلّف إلى موت السرديات الكبرى في عصر ما بعد الحداثة، ولذلك كان من المنطقي أن أتوقف قليلاً عند (موتِ المرأة) ليكون لي السبق في إعلان موتها على الملأ بعد ما تهيأ لهذا الموت من مقدمات فلسفية ونفسية وأدبيّة كافية، وليندرج موت المرأة في سلسلة الموت هذه فيكون شاهداً على ما ينزل في ساحتنا منه، وليكون حلقة أضافية تبقي السلسلة نفسها مفتوحة لإضافة حلقات أخرى ينتظرها المصير نفسه.
– وإذا كان من الممكن لكلّ موت أن يعوّض ببديل مقبول بفعل ارتباطه الجدلي الوثيق بثنائيته مع الحياة فإنّ الموت الأخطر هو موت الفكر الحرّ القادر على التأويل والمقاومة بفعل هيمنة نزعة الاستبداد واستعبادها الناس من كل جنس ولون وهذا ما وقفنا عنده في دراسة (خطاب التبجيل) في الثقافة العربية الذي حفرنا فيه عميقاً بحثاً عن الجذور الخفية التي تمثلت بنظام الاستبداد الذي تملك زمام الأمر على مدى القرون العديدة التي سبقت النهضة الحديثة، وهذا ما أدّى إلى غياب قدرة الفكر على المقاومة والإبداع بعد أن حُرِم من أدنى مساحات الحرية اللازمة وجعل ظله يمتد على العصور اللاحقة فكانت اللغة ـ وهي أداة التفكير – ضحية من ضحاياه أيضاً فتجمّدت وعجزت عن استيعاب الجديد، وكفت قدراتها عن التعبير بعد أن تحوّلت إلى آياتِ حمدٍ وتمجيد للسلاطين المستبدين ثم ما لبثت أن استكانت إلى هيمنة العُجمَة عليها، وغلبتها العامية الهابطة لتكون وسيلة تعبير وتفكير أيضاً وهو ما يعطينا مقياساً دقيقاً لمدى تراجع الحضارة العربية التي غدَت رتيبةً هامدة، لم تنشط صدمة النهضة الحديثة منها إلا بعض خلاياها الصغيرة إلى حين ثم تعود إلى الخمول بفعل الردّة على النهضة نفسها و شروع تيارات التطرف الفكري والديني الغارق في أوهام أزمنة خلت بتصدّر واجهة المشهد الثقافي والسياسي لإعادة انتاج أسوء ما خلفته عصور الظلام في تاريخنا الطويل.
– جل ما أريد قوله من جهدي هذا هو الدعوة إلى تنشيط العقل الحر المفكّر بواقعية الباحث التجريدي المتشكك، الباحث بطريق الفحص والمعاينة والمساءلة عن وجه من وجوه الحقيقة القابلة للنقض، أو التأكيد أو المناقشة والتعديل، من دون الانطلاق من مسلّمات أيديولوجية مسبقة تكون حاكمة على الفكر ونتائجه مقدّماً.
– كان السبيل إلى ذلك هو الكشف عن الجذور التي قيدت الأفكار وصادرت على العقول، وغيبت الفعل والإرادة، وقد بدا لي أن (الاستبداد) بمختلف أشكاله، وأماكنه، وأزمانه هو العلّة الخفية المقيدة لمركب التخلف الثقيل الذي يستكين على شواطئ ثقافتنا ولا يريد أن يتزحزح عنها في المستقبل المنظور، ولا سبيل لنا للتخلّص من هذا الجمود إلا بتحرير عقولنا من جهلها، ونفوسنا من خَورِها وتردّدها، والانطلاق بخطوة واثقة قوية مستندة إلى رؤية واضحة في حاضرها ومستقبلها، وإذا كان قد فات أجيالنا كثير من هذا فما أرى الأجيال القادمة إلا أن تكون أسعد حالاً لتبني حياتها ومستقبلها بالطريقة التي تراها أكثر ملاءمة لتطلعاتها وتحقيق أحلامها في عالم يتمتّع بأكبر قدر من الحريّة، والعدالة، والكرامة بعودة الإنسان إلى واجهة الحدث والفعل الإنجازي المؤثر .
– ختاماً أقول: إنّ كلّ ما ورد في هذا الكتاب من أفكار وآراء تبقى مفتوحة أمام الرأي الناقد، قابلة للتعديل والتبديل بأصوب منها، فلا حدية في الرؤية، ولا جزم بالرأي، ولا تصلّب في الفكر، فغرضُنا الرئيس من هذا العمل يقتصر على تحريك التفكير، وإثارة الأسئلة إذ الفلسفة سؤال والعلم سؤال، وروح التفكير تبدأ من السؤال بلهفة الباحث عن إجابات ولو كانت مؤقتة، قابلة لابدالها بخير منها لتبقى مفتوحةً على آفاق لانهاية لها، وحسبنا هذا أملا.