#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– إن كلام كل شخص يبين حقيقة ذاته ويفصح عن منهج حياته ، فـ ” المرء مخبوء تحت لسانه ” ؛ وإذا تكلم الإنسان تأثر المستمع بالكلام سلباً أو إيجاباً بحسب ما يصدر من فم المتكلم، فإذا كان الصادر من الكلام واستعداد السامع متوافقين عند ذاك يكون التأثير إيجابياً، وإذا بدأ الإختلاف بينهما كان التأثير سلبياً، أما إذا كان تأثر السامع للكلام مميزاً فإن ذلك يدلّ على أن ذلك الكلام كان بليغاً، وإذا كان الصادر مميزاً في التعبير عن مكنون المتكلم كان الكلام فصيحاً .
– وإن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان متصلاً بوحي السماء ومُطلعاً على مكنون العلم الإلهي من خلال التصاقه بالنبي صلى الله عليه وآله حتى سمّاه الله سبحانه نفس رسوله في آية المباهلة في القرآن المجيد، فإنه كان بحق باب مدينة العلم الرباني الذي أودعه رب العزة في صدر سيد المرسلين واختص به حبيبه خاتم النبيين، فأصبح أمير المؤمنين عليه السلام ” قطب الرحى “ ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، وقد وصل به الأمر إلى أن قال : ” إنّا لأمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه “ ، حيث أن كلامه عليه السلام كان بحق في قمة الفصاحة وارتقى إلى ذروة البلاغة .
– وهذا الأمر يدركه كل من يعرف أوليات اللغة العربية، ويبهر كل من نال قليلاً من العلم في مختلف الميادين، وأقرّ به أهل الإنصاف من كل شرعة ودين سواء كانوا موافقين لأمير المؤمنين أو معاندين له ؛ فهذا الخارجي الذي كان يرى علياً كافراً، وهو أفصح في جملة قصيرة عن مكنون قلبه تجاه علي عليه السلام في جملة : ” قاتله الله كافراً ” ، لكنه استدرك بكلمة : ” ما أفقهه “ التي تبيّن مدى انبهاره بتفوق الإمام في العلم وتفرّده في الفقه.
وفي خضم هذا الواقع الأليم عمل خصوم علي عليه السلام والحاسدون له بكافة الوسائل وطوال القرون على كتم كل ما رّوي منه ، وإخفاء جميع ما أُثر عنه، مما يدلّ على علوّ مكانته، ويُظهر شرف منزلته ، ويبين عظيم فضله ؛ ولما لم يستطيعوا فإنهم بذلوا كل الجهود والعمل إلى أقصى الحدود للتقليل من ذكر ما ورد على لسانه في كتب التاريخ والرواية والأحاديث ودمج بديع كلامه بين باقي الكلام المنسوب إلى غيره ، كي لا يبين للمطالع ميزاته عما صدر من غيره ؛ ولما فشلوا في ذلك أقدموا على تقطيع أقواله وبعثرة كلامه ثم نثره في أبواب مختلفة، فلا يتمكن المطّلع بعد ذلك من الإستفادة اللازمة من مكنون ما في الكلام البليغ من عظيم المعنى وما احتوى من جليل الفحوى؛ ولما عجزوا عن إخفاء نور كلامه عن العالمين رغم كل الجهود المضنية في القرون المتطاولة فإنهم بادروا إلى نسبة بعض ما صدر عنه إلى غيره زوراً في محاولة لإلباس الفضل لأعدائه، ورفع شأن خصومه في نظر الغفلاء من العالمين .
– وفي المقابل فقد عمل كثير من العلماء والمؤرخين في سالف العصور على جمع ما انتثر من كلام الإمام في بطون أمهات المصادر، وترتيب ما تبعثر في الفصول والأبواب، ليتمّ إيصال ما أمكن من الحِكَم إلى الشائقين لدرك عميق ما بدر من لسانه أو خطه بقلمه أو أملاه على أحد من أصحابه .
– فكان من أجمل ما تدوّن من مختارات بديع كلام علي عليه السلام كتاب ” نهج البلاغة ” للسيد الشريف الرضي رضوان الله عليه في العام ٤٠٠ هجري، في استجابة لطلب ( جماعة من الأصدقاء ) بعد ما كان ذكر بعض درر الكلام ومحاسن الأقوال في فصل أخير من كتاب له باسم ” خصائص أمير المؤمنين “ ، فوُصفت مختاراته تلك بـ ” فوق كلام المخلوقين “ في فصيح اللفظ وعظيم المعنى رغم التقطيع الموجود في الكتاب بحسب استحسان الشريف أو بسبب نقله من مصادر سبقت عصره وهي أوردت الكلام في صفحاتها مجتزءاً ، فكان ” نهج البلاغة “ طوال القرون مناراً يهتدي به العالَمون ويستضيء بنوره العالِمون، وكان بحقٍ التالي بعد كتاب الله سبحانه من حيث إعجاز الكلمة ونصاعة المحتوى وعظمة المعنى، فجرى الله السيد الشريف الرضي أحسن الجزاء ومنحه أفضل الثواب .
– لكن قصد الرضي في الإختصار وانشغاله بكثير المهام، ولثقة ( الأصحاب ) بأن ما يورده الشريف قد توثق منه حتماً، وتحقق في صحة روايته جزماً، فإنه لم يذكر المصادر التي نقل عنها إلاّ قليلاً، ولم يورد سند الرواية إلاّ نادراً، وكان هذا الأمر غير ذي أهمية عند تلاميذه المباشرين الذين وثقوا بالوارد في الكتاب، فقاموا بنشره في الآفاق ، وبادروا إلى شرحه في المحافل، فذاع صيته في الأمم، وتسابق الناس على اقتنائه والإرتواء من معينه.
– ومع مرور الزمان وتقادم الأيام برزت الحاجة إلى البحث عن مصادر تلك المختارات والتمحيص في أحوال الرواة، فكانت ” المستدركات “ العديدة لنقل غير ما أورد الشريف في كتابه، وتألفت كتبٌ تتضمن ” المصادر والأسانيد ” لتوكيد الرواية والتوثق من حال الرواة، وذلك لدفع شبهات المعاندين وإفساح المجال لاستناد الفقهاء والمحققين، فكانت خدمتهم جليلة وجهدهم عند ربهم مشكوراً.
– لكن تلك الجهود العظيمة لم تصل إلى حد الوصول إلى تمام ما أورد الشريف الرضي جزءاً منه، ولم يتمكن المؤلفون بسبب قلة الإمكانات وتشتت المصادر في عموم المكتبات المتباعدة من بلوغ المراد في الإطلاع على كثير من المصادر القريبة من زمان الصدور والعثور على كامل الخطب والكلام والوصايا والكتب والعهود، لتكون الإستفادة أتمّ بعد زوال التقطيع، ويكون الإستناد سهلاً بعد ذكر المصادر والأسانيد، فكان كتاب ” تمام نهج البلاغة “ الذي “ يروي ظمأ العطشى وينير طريق العارفين ، ويهدي البشرية إلى السعادة في الدارين “ .
– لقد كانت الفكرة جميلة في الأساس ، وقد طرحها آية الله السيد علي خامنئي لما كان رئيساً للجمهورية الإسلامية ، وذلك أثناء خطاب له أمام المؤتمر العالمي الأول لـ ” نهج البلاغة “ في العاصمة الإيرانية عام ١٩٨٠، وكنت أنا حاضراً هناك مبعوثاً من مكتب الإمام الخميني رضوان الله عليه ، فأعجبتني تلك الفكرة، وتشوقت للحصول على نسخة من الكتاب بعد تأليفه ، وانتظرت سنوات من يبادر إلى تحقيق الأمر، لكن أحداً لم يُقدم على هذا العمل الشاق، ولم يخطُ أحد لتنفيذ المقترح أية خطوة، فكانت منّة الله سبحانه عليّ، وتوفيقي لولوج هذا البحر الزخّار الذي لا يُدرك عمقه .
– ولولا الفضل الرباني عليّ والعناية الخاصة لسيدي ومولاي أمير المؤمنين عليه السلام ودعاء والديّ بالتوفيق للخير لي لما تمكن هذا العبد العاجز من الغوص في هذا المحيط الموّاج، وبلوغ المراد في الوصول إلى المصادر المنثورة هنا وهناك والمنتشرة في الأقطار المتباعدة مع ما كنت أعانيه من قلة التجربة وضعف الإمكانات.
– وأشكر الله سبحانه على ما أفادني المحقق المرحوم الشيخ المحمودي صاحب ” نهج السعادة “ من خلاصة تجربته طوال عقود، وما صدر من تشجيع لي من المرحوم السيد الخطيب الحسيني صاحب ” مصادر نهج البلاغة وأسانيده ” .
– والشكر بعد ذلك لزوجتي العزيزة ” أم سليمان “ التي شاركتني الرحلة المقدسة ، وصبرت كثيراً على صنوف المصاعب وتحملت عني كل المسؤوليات، حتى تمكنتُ لمدة ٢٨ عاماً من السفر إلى مختلف البلاد براحة البال، والتفتيش في أهمّ المكتبات بحثاً عن مصدر رواية ونصّ في كتاب غير مشوش الفكر، حيث تكفلت بالعناية بأمور الأولاد وتربيتهم وتعليمهم فضلاً عن تدبير أمور المنزل رغم فقدنا لأبسط الإمكانات، لكنها لعشقها لأمير المؤمنين عليه السلام سندت بكل قوتها ظهري ودعمت بكل إخلاص جهدي، وطلباً لشفاعة ساقي الحوض رضيت بأن تأخذ الحمل الثقيل عني ، فجراها الله على ما عملت خير الجزاء ولها مني الشكر الكثير على الدوام .
– لقد تدرجتُ في العمل التحقيقي حيث بلغت مصادر النسخة الأولى ( المشروحة ) ٢٩، لكن ( النسخة الموثّقة ) التي تلتها نافت مصادرها عن الـ ١٠٠، وهي صارت كتاب العام من جانب ” مؤسسة نهج البلاغة ” في طهران عام ١٩٩٥ ، ثم توسعت دائرة التحقيق كثيراً فكانت ( النسخة المُسندة ) في ٨ أجزاء وبلغت مصادرها ٧٧٠، وأعلنتها الحوزة العلمية في ” قم ” المقدسة كتاب العام لسنة ٢٠١٤، ولم أتوقف في العمل التحقيقي فكانت ( النسخة المرجع ) في جزء واحد ضخم وكبير وصارت مصادرها ١٢٠٠، وهي المتداولة اليوم بين أيدي المتابعين في أجمل طبعة وأنفس حُلّة .
– لقد أوجد هذا التأليف في بداية الأمر صدمة في مختلف الأوساط ، إذ كان الناس وأهل التحقيق والفضل والخطابة قد اعتادوا على نسخة الشريف الرضي رضوان الله عليه طوال قرون ، ولم يتوقعوا أبداً الوصول إلى السابق لما أورده الرضي واللاحق لما اختاره، لكن هذه الصدمة لم تدُم طويلاً ، بل صدرت توثيقات عديدة من مراجع الدين وتأييدات من كبار المحققين، حيث صار ” تمام نهج البلاغة “ مستنداً لكبار علماء الدين في دروسهم ، ومرجعاً يعود إليه الباحثون في دراساتهم، حتى قال أحد كبار مراجع الدين وأبرز المفسرين المعاصرين آية الله العظمى الشيخ جوادي آملي : ” إن الواجب اليوم هو تجاوز ” نهج البلاغة “ للسيد الرضي والإستناد حتماً في الحوزات والجامعات بـ ” تمام نهج البلاغة ” حصراً ” ، وقال أيضاً : ” يجب أن يكون في كل بيتٍ القرآن الكريم وإلى جانبه كتاب “ تمام نهج البلاغة “ ، وأكد كذلك على أنه لا يمكن لأحد أن يفهم بصورة كاملة وبشكل دقيق مقصود أمير المؤمنين عليه السلام إلاّ من خلال مطالعة كتاب ” تمام نهج البلاغة “.
– ولقد أوردنا في مقدم النسخة الأخيرة جملة من التقريظات من كبار مراجع المسلمين وأهل الفضل من كل طائفة ودين، وزادت كثيراً التأييدات بعد ذلك من جانب أهل العلم والمحققين في مختلف الأقطار، حتى صار بحمد الله ” تمام نهج البلاغة “ كتاباً يّدرّس اليوم في كثير من المعاهد العلمية والحوزات الدينية.
– وفي خضم الفظاعات والأعمال الوحشية للعصابات التكفيرية التي شوّهت وما تزال صورة الإسلام الناصعة أمام الأمم والشعوب فقد وفقني الله وبمساعدة إخوة مخلصين للوصول إلى أهم المؤسسات الدولية والعلمية وعرض الكتاب لها والتعريف أمامها بأمير المؤمنين عليه السلام وبيان درر من كلامه، فكانت هذه الخطوة خير سبيل للرد على تخرّصات التكفيريين وادعاءات عملاء أجهزة المخابرات الأجنبية وخَدَمة أعداء الدين، إذ انتشرت أخبار اللقاءات على أوسع نطاق وفي الصفحات الرسمية لمواقع تلك المؤسسات، وتركت هذه الخطوات أثراً كبيراً لدى الموالين لأمير المؤمنين وأثارت الغضب عند ناصبي العداء لآل سيد المرسلين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
فأسأل الله أن يتقبل مني برحمته هذا القليل، ويجزيني بكرمه وجوده الكثير بشفاعة ساقي الحوض علي أمير المؤمنين إنه الودود الرؤوف.
– السيد صادق الموسوي :