#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– تميز العراق بأنه كان موئلاً للقضايا الفكرية والعقائدية المتعددة، ومنها قضية الخلاف بين الشيعة والسنة؛ إذ إن موقع العراق الجغرافي الوسيط في العالم الإسلامي ، والوقائع التي حدثت فيه منذ خلافة الامام علي بن أبي طالب (ع) ، كان له أبعد الاثر في ظهور الافكار والتيارات الدينية وما جرى لها فيما بعد من تأصيل، وخاصة ما تعلق منها بالانقسام المذهبي واتجاهه نحو الطائفية.
لقد ساهمت عوامل عديدة أخرى في زيادة ذلك الانقسام كالسلطة السياسية الحاكمة في العهدين الاموي والعباسي، والتي حاولت إشغال المجتمع من خلال تبني ودعم اتجاه معين ضد الاتجاه الآخر. والهدف من ذلك كله توجيه الاختلافات في الآراء والمواقف من قضية الخلافة والامامة نحو المزيد من الانقسام بين أتباع الفريقين. ولا يخفى هنا عوامل التعصب من قبل بعض العلماء والدعاة، والجهل الذي كان يدفع بالعامة إلى الفعل ورد الفعل ضد بعضهم البعض كل وفق مذهبه وطائفته. أضف إلى ذلك دخول العنصر الاجنبي كعامل مساعد في تعميق الخلافات والصراعات الطائفية منذ القرن الرابع الهجري، فكان الديلم إلى جانب الشيعة والاتراك إلى جانب السنة. وأصبح الامراء والقادة من الفريقين يعملون من خلال ذلك الصراع على تقاسم النفوذ والسلطة على المناطق، والعوام من الناس هم وقود الفتنة والاقتتال الطائفي. فمثلاً كانت بغداد بين الفينة والاخرى تشهد فتن طائفية بين الشيعة والسنة يذهب ضحيتها الكثير من السكان.
ولم يشذ ذلك الامر في العصور الحديثة، خاصة وأن قضية الخلاف بين الشيعة والسنة اتخذت طابعا سياسيا وعسكريا من خلال بروز قوتين كبيرتين على تخوم العراق وهما الدولة الصفوية والدولة العثمانية، واللتان تبنتا نهجا متشددا في العلاقة بينهما، كان أحد أبرز دوافعه قضية الخلاف الطائفي. فمنذ مطلع القرن السادس عشر أصبح العراق ساحة تنافس وصراع بين الصفويين الذين تبنوا قضية الدفاع عن الشيعة والتشيع (وفق المذهب الاثني عشري)، والعثمانيين الذين كانوا يعدون أنفسهم حماة الدين والعالم الاسلامي السني (وفق المذهب الحنفي). واستمر ذلك لأكثر من قرنين من الزمان ، كان فيها العراق بمدنه ومناطقه من أهم ساحات المواجهة بين الطرفين ، الامر الذي ترك آثاراً سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية كبيرة. ومؤتمر النجف المراد تناوله في هذا البحث كان جزءاً من تداعيات ذلك الصراع، والذي حاول فيها (نادرشاه) خليفة الصفويين في حكم إيران أن يضع حداً لها من خلال جمع علماء الفريقين للتباحث والوصول إلى اتفاق.
1- الصراع الصفوي العثماني ودوره في تعميق الطائفية
لقد فرضت طبيعة النشأة والتكوين لكلتا الدولتين إلى تبني الشعار الديني كأساس للشرعية والتوسع. فإذا كان العثمانيون قد تبنوا في بادئ الامر شعار الجهاد ضد أوربا وفق قاعدة (دار الاسلام ودار الكفر)، والذي استمر طيلة القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين ، فإن ظهور الدولة الصفوية في الشرق وتوجهاتها التوسعية نحو مناطق شرق الاناضول والعراق كان له الاثر البارز في التحول السياسي والعسكري للعثمانيين من الغرب إلى الشرق، مع تغيير طارئ للمنطلقات الدينية العثمانية بحيث عدَ الصفويين أشد خطراً من الاوربيين المدافعين عن مناطقهم. فلقد كانت الدعاية الصفوية في عهد الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524م) تعمل على قدم وساق في المناطق المتاخمة من خلال الدعاة المرسلين ضد الدولة العثمانية وتأييد التوجهات الصفوبة. وهذا ما دفع السلطان العثماني سليم الأول (1512-1520) إلى استحصال الفتاوى من قبل العلماء بضرورة قتال هؤلاء ومؤيديهم أينما وجدوا. فتم إبادة أربعين ألفاً من الشيعة في الاناضول في وقت واحد من قبل الجيش العثماني. وكرد على مذابح السلطان سليم قام الشاه إسماعيل قام بارتكاب المذابح الجماعية ضد السنَة في بلاده أيضاً. فتحول الصراع السياسي بين الدولتين إلى صراع ذي صبغة طائفية لم ينتهي بنهاية معينة، وإنما امتد للقرون التالية.
ولم يكن العراق بعيداً عن توجهات الدولتين التوسعية نظراً لموقعه الجغرافي الفاصل بينهما، ووجود العتبات الدينية المقدسة، ورغبة الطرفين في السيطرة عليه. فأصبح ساحة للصراع السياسي والعسكري من خلال الحروب وحصار المدن والمناطق وما كان يتخللها من عقد اتفاقيات ومعاهدات تركزت بالدرجة الاساس حول ترسيم الحدود، وتبادل السفراء، وزيارة الاماكن المقدسة في العراق. وقد ورثت الدول والحكومات التي أعقبت حكم الصفويين في إيران الصراعات والحروب مع العثمانيين، خاصة في عهد حكم نادرشاه (1732-1747م).
2- نادرشاه وتوجهاته التوسعية في العراق
برز دور نادرخان ـ الذي سمي فيما بعد بـ نادر شاه ـ على مسرح الاحداث في إيران بعد نجاحه في طرد الافغان عام 1729م. ونتيجة لضعف الدولة الصفوية بدأ نادر يمهد لنفسه الوصول إلى العرش، والذي تم بشكل رسمي عام 1732م. وعمل منذ ذلك الوقت على تكوين إمبراطورية واسعة لنفسه ولاحفاده عن طريق قيادة الحملات العسكرية نحو المناطق المختلفة في إيران، وأفغانستان، والهند، والخليج، والعراق، وتركستان، وداغستان، ومناطق بلاد ما وراء النهر.
فبالنسبة للعراق بدأ نادر شاه طموحاته التوسعية نحوه منذ عام 1733م ، عندما قام الاخير بحصار بغداد طيلة سبعة أشهر حدث خلالها دمار كبير للمدينة، واضطر أهلها آنذاك إلى أكل الميتة من الحيوانات السائبة. وتكررت المحاولة عام 1734م، والتي انتهت بالاتفاق على الاعتراف المتبادل بالحدود المرسومة منذ عام 1639م، وإطلاق سراح الاسرى من الطرفين، وتسهيل زيارة الايرانيين للعتبات المقدسة في العراق.
تجددت محاولات نادرشاه للسيطرة على مدن العراق عام 1743م عندما تقدمت قواته عبر ثالث محاور باتجاه بغداد، والبصرة، والموصل. والمحور الاخير كانت بقيادة نادرشاه نفسه للسيطرة على كركوك وأربيل والموصل، لكنه فشل في السيطرة على الموصل بالرغم من حصار المدينة طيلة واحد وأربعون يوماً. فعاد من هناك إلى بغداد وطلب من الوالي أحمد باشا عقد الصلح بال قيد أو شرط، فتم الاتفاق على ذلك شريطة عودة نادرشاه إلى بلاده وعرض القضية على الدولة العثمانية.
وقرر نادرشاه الذهاب إلى النجف وكربلاء لزيارة العتبات المقدسة، والاطلاع على البناء الذي كان قد أمر به سابقاً، ولا سيما تذهيب قبة مرقد الامام علي بن أبي طالب. ودعا هناك إلى عقد مؤتمر للتقارب بين علماء الشيعة والسنة، وأرسل إلى والي بغداد طالباً منه من يمثله في ذلك المؤتمر.
والسؤال هنا: لماذا اهتم نادرشاه بقضية الخلاف بين الشيعة والسنة؟ ولماذا دعا إلى هذا المؤتمر في مدينة النجف بعد الحروب والصراعات التي خاضها في العراق؟
إن قضية الخلاف بين الشيعة والسنَة ارتبطت بتوجهات نادرشاه منذ اعتلائه للعرش وتظاهره بالقبول بها شريطة موافقة الجميع على التخلي عما جاء به الصفويون، وخاصةً المؤسس الشاه إسماعيل الصفوي من التعصب الطائفي .. وأعلن بأنه سوف يعمل على توحيد المسلمين بمذاهبهم المختلفة مع إضافة المذهب الجعفري كمذهب خامس للمذاهب السنية الأربعة (الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية).
ويعلل البعض ذلك إلى أن نادرشاه أراد أن ينسى الايرانيون الاسرة الصفوية وما خلقته من العداوة والبغضاء بين الاثنيات المتنوعة في إيران، والتي كانت سبباً للكثير من الثورات والتمردات في المناطق المختلفة. فيما يرى البعض الآخر إلى أن نادرشاه كان يحلم بزعامة العالم الاسلامي بعد القضاء على الدولة العثمانية، وأنه يستطيع من خلال الدعوة للتقارب بين المذاهب في بناء دولة مترامية الأطراف يجمع فيها الجميع الشيعة والسنة معاً. والحقيقة أنَ ما ترسخَ في الاذهان من عقائد وأفكار جيلاً بعد جيل لا يمكن محوها من الناس بإرادة حاكم ما، أو جهة معينة، أو مؤتمر قصير يجتمع فيها العلماء والمفكرون.
ويبدو أن نادرشاه بحكم نشأته في قبيلة سنية وبروزه كقائد عسكري في جيوش الصفويين قبل أن يتبوأ العرش، لم يكن ميالاً إلى إحدى الطائفتين، وأدرك بحنكته السياسية والعسكرية أن الدولة والجيش والمجتمع الذي سيحكمه يضم أعراقاً وطوائف متنوعة لا يستطيع فيها الانحياز إلى طرف ما ضد طرف آخر. وأنه من الضروري توليفها خدمة لاهدافه وطموحاته في بناء دولة كبيرة وقوية. وليس أدل على ذلك من جيشه الذي دخل به العراق عام 1743م كان يضم جنوداً من أصول وأعراق متعددة مثل: (الفرس والاذربيجانيين، والجورجيين، والتركستانيين، والافغان، والهنود، والعرب، وغيرهم).
واللافت للنظر أن نادرشاه أراد فرض توجهاته في تثبيت المذهب الجعفري كمذهب خامس ليس على رعايا دولته فحسب، وإنما على الدولة العثمانية أيضاً من خلال مطالبته إيَاها بالاعتراف بذلك، والسماح لهذا المذهب أن يكون له ركن في الكعبة أثناء موسم الحج كما للمذاهب الاخرى، مع تعيين أمير إيراني للحج يكون مركزه مساوياً لمركز أميري الحج السوري والمصري. غير أن الدولة العثمانية كانت ترفض ذلك باستمرار كجزء من نهجها الطائفي في عدم الاعتراف بالحقوق الدينية للطائفة الشيعية. فاتخذ نادرشاه ذلك ذريعة لشن الحملات المتكررة على مناطق الدولة العثمانية، ومنها العراق دون أن يتمكن من تحقيق ذلك بالوسائل العسكرية. ومن هنا جاءت دعوته لعقد مؤتمر للتقريب بين الطائفتين في النجف.
– فيما يلي الجزء الثاني لمقال مؤتمر النجف التاريخي ، نشر جزئه الأول يوم أمس الخميس ، تناول فيه الكاتب مكانة العراق الجغرافية كونه وسيط في العالم الإسلامي، والوقائع التي حدثت وتأثيرها في ظهور الأفكار والتيارات الدينية وما جرى لها فيما بعد من تأصيل، وخاصة ما تعلق منها بالانقسام المذهبي واتجاهه نحو الطائفية.
٣- الإطار العام لمؤتمر النجف :
أ- المصادر التاريخية :
قبل أن نتناول أسس انعقاد المؤتمر والحيثيات التي رافقت انعقاده، لا بد في البدء من الإشارة إلى المصادر التاريخية المعاصرة، والتي تناولت المؤتمر بشكل وآخر. حيث يمكن تقسيم تلك المصادر إلى مصادر محلية، ومصادر فارسية، ومصادر عثمانية. فالمصادر المحلية تركزت حول رواية مبعوث والي بغداد إلى المؤتمر وهو الشيخ عبد الله السويدي، والتي أوردها في كتابيه (النفحة المسكية في الرحلة المكية)، و(الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية). وقد أورد عبد الرحمن السويدي نجل الشيخ عبد الله مقتطفات من رواية والده حول المؤتمر في كتابه (حديقة الزوراء في سيرة الوزراء)، وكذلك فعل المؤرخ رسول حاوي الكركوكلي في كتابه (دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء).
والحقيقة أن الشيخ عبد الله السويدي بحضوره للمؤتمر وروايته عما جرى فيه من الآراء والمناظرات، اختلف دوره في ذلك بين كونه حكما وشاهدا عما يجري من اتفاق بناء على ما طلبه منه نادرشاه وكما أشار هو إلى ذلك وبين تحوله إلى طرف في المناظرات ودفاعه عن وجهة نظر علماء السنة. والأكثر من ذلك أنه وبالرغم من اتفاق العلماء على وثيقة المؤتمر والاعتراف المتبادل بين الطرفين في الحقوق والواجبات، نجد أن الشيخ عبد الله يهاجم في نهاية الرواية علماء الشيعة ومذهبهم وأفكارهم، مع إصراره على عدم الاعتراف بهم.
أما المصادر الفارسية فيعد میرزا مهدي خان استراباداي من المؤرخين الأساسين الذين تناولوا المؤتمر باعتباره المؤرخ الرسمي لنادرشاه ومرافقه في حملاته على العراق. وجاءت تفاصيل المؤتمر في كتابيه (جهانكشاري نادري)، و( دري نادري). واستقت بقية المصادر الفارسية معلوماتها حول المؤتمر من الكتابين. ومن الجدير بالذكر هنا أن ميرزا مهدي خان حاول أن يعطي لنادرشاه الدور الأبرز في المؤتمر، ولم يتطرق إلى تفاصيل المناظرات بين العلماء كما فعل السويدي، وإنما دوّن فقط نص البيان الذي توافق عليه الحاضرون.
أما المصادر العثمانية المعاصرة لتلك المرحلة التاريخية، فإنها سكتت عن ذكر تفاصيل هذا المؤتمر. ويبدو أن السبب في ذلك هو عدم اهتمام الدولة العثمانية بالمؤتمر ورفضها لنتائجه فيما بعد. إذ إن نادرشاه هو صاحب فكرة عقد المؤتم، والوالي العثماني في بغداد أحمد باشا لبى طلب نادرشاه حول ذلك دون الرجوع إلى الدولة العثمانية، نظرا للظروف الحرجة التي كانت تحيط به، ومن أجل التخلص من وطأة الحصار والحروب ومطامع نادرشاه.
ب – المنطلقات الأساسية لفكرة المؤتمر:
إن فكرة عقد المؤتمر وجمع أكبر عدد من علماء الشيعة والسنة كانت من بناة أفكار نادر شاه، وهو الذي وضع أسس الوثيقة والاتفاق بين العلماء، إضافة إلى اختياره المكان المناسب لذلك وهو جوار مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع) في النجف الأشرف. ويمكن القول أن المؤتمر أريد له كما كان مخططا مسبقا، وقبول العلماء المجتمعين بالوثيقة لم يكن سوى رضوخا لأهداف وتطلعات نادرشاه، أو كما وصفه الدكتور علي الوردي بـ ( إرادة الجبار). وهذا ما أفقد المؤتمرین روح التسامح والقبول بالآخر بشكل فعلي، وغياب الرغبة في تحقيق التالف والوحدة بين الطائفتين، بالرغم من القبول ظاهريا بوثيقة المؤتمر، والتظاهر بالرضا من قبل الحاضرين، وإقامة الأفراح وتوزيع الحلوى في نهاية المؤتمر.
لقد أراد نادرشاه من المؤتمر ونتائجه أن يحقق ما عجز عن تحقيقه بالوسائل العسكرية، وهو بذلك سيضمن اعتراف الجميع بفضله والأسبقية في حل معضلة الخلاف المستديم بين الشيعة والسنة الأمر الذي سيؤهله أن يكون زعيما للعالم الإسلامي.
أما والي بغداد فهو اضطر للقبول بالمشاركة بها عبر ممثله الشيخ السويدي، لغرض إبعاد خطر نادرشاه، خاصة وأن الدولة العثمانية كانت تعاني من ضعف شديد لا تستطيع فيها إرسال الجيوش باستمرار للدفاع عن العراق، وهي التي كانت تخوض آنذاك حروبا أخرى مع أوربا.
ومن هنا يمكن القول أن المؤتمر جاء سريعا في انعقاده، مثلما كان سريعا في اعتماد مقرراته المعدة سلفا من قبل نادرشاه. غير أنه يجب القول أيضا بأن المؤتمر يعد بمثابة الملتقى التاريخي الأول بين علماء الفريقين (الشيعة والسنة)، ولم يتبعه لقاءات أو مؤتمرات أخرى حتى نهاية الدولة العثمانية.
4 – انعقاد المؤتمر
بدأ المؤتمر أعماله في مدينة النجف يوم الأربعاء المصادف 24 شوال / ۱۲ كانون الثاني، واستمر حتى يوم الجمعة 26 شوال / 14 كانون الثاني لعام 1156هـ /1743م. وقد تركزت أسس الحوار بين العلماء حول القضايا التالية :
– التكفير الحاصل بين فرق المسلمين.
– سب الخلفاء والصحابة.
– الاعتراف بالشيعة الإمامية الاثني عشرية كفرقة من فرق المسلمين، ومذهب الإمام جعفر الصادق (ع) كمذهب خامس للمذاهب السنية الأربعة الأخرى.
كان عدد العلماء الحاضرين في المؤتمر حوالي 70 عالما، غير أن من شاركوا في المناظرات والحوارات عدد محدود من العلماء، لئلا تطول العملية ولا يتحقق الهدف المنشود من المؤتمر. فكانت المناظرة الأولى بين زعيم المجتهدين الشيعة في بلاط نادرشاه الملا باشي علي أكبر وبين مندوب والي بغداد الشيخ عبدالله السويدي، وتناولت أحقية الإمام علي بن أبي طالب (ع) بالخلافة، وموقف الشيعة من الصحابة، وموقف السنة من الشيعة، بحيث استدل كل طرف بما لديه من الحجج والروايات، مع التشكيك بما لدى الطرف الآخر. وفي المناظرات التالية شارك كل من العلامة هادي خوجة الملقب ببحر العلوم ابن قاضي بخاری الحنفي، والملا حمزة القلنجاني مفتي الأفغان، إضافة إلى المتناظرين السابقين.
والمتتبع لتلك المناظرات يمكن أن يجد فيها الملاحظات التالية:
أ- كانت المناظرات تقوم على أساس الجدال العقيم الذي يكون فيه كل طرف متمسك برأيه وبالأدلة التي تثبت معتقده ومن دون أن يتمكن من إقناع الطرف الآخر بها.
ب – إن روح الانتقاص والتقليل من شأن الآخر كانت السمة البارزة في نظرة المتناظرين لبعضهم البعض.
ت – إن الجدال العقيم في المناظرات لم يكن يؤدي إلى اتفاق، الأمر الذي كان يدفع نادرشاه إلى العمل على إطالتها ، ومنع زيادة الفجوة والخلافات أكثر مما قد وصلت إليه.
كانت تعليمات نادرشاه نادرشاه للملا باشي علي أكبر كانت تنص على ضرورة قبول جميع شروط علماء السنة من حيث القبول برفع السب عن الصحابة وعدم الانتقاص من شأنهم، وتعظيم الخلفاء الراشدين الأربعة وفق ما نصبوا عليه، مع ضرورة موافقتهم على عدم تكفير الشيعة والاعتراف بهم كمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. ويبدو أن نادرشاه بدا وكأنه مصر على توقيع الوثيقة النهائية من قبل العلماء الحاضرين، والتي كان قد وضعها بنفسه لغرض تحقيق الأهداف التي أشرنا إليها سابقا ثم العودة إلى إيران، خاصة وأنه تلقى آنذاك تقارير مزعجة له تؤكد حدوث تمردات في بعض الأجزاء من بلاده.
5 – مقررات المؤتمر ونتائجه
في اليوم الثاني للمؤتمر ( الخميس 25 شوال) تم الاجتماع في المسقف الواقع خلف ضريح الإمام علي، وبحضور جميع العلماء والحاشية وقادة الجيش والكثير من العوام من سكان المدينة. وتم التوقيع على وثيقة مدونة باللغة الفارسية نصت على مقدمة من كلام نادرشاه حول رفع السب عن الخلفاء والصحابة وعلى عدالتهم وترتيبهم. ويلي ذلك كلام عن لسان الحاضرين من العلماء والعامة من الناس بالمضمون ذاته.
أما أهم بنود الاتفاق في الوثيقة فجاءت على النحو التالي:
أ – بما أن أهل إيران عدلوا عن العقائد السالفة ونكلوا من الرفض والسب، وقبلوا المذهب الجعفري الذي
هو من المذاهب الحقة، المأمول من القضاة والعلماء والأفندية الكرام الإذعان بذلك وجعله خامس مذهب.
ب – إن الأركان الأربعة من الكعبة المعظمة في المسجد الحرام التي تتعلق بالمذاهب الأربعة، والمذهب الجعفري يشاركهم في الركن الشامي بعد فراغ الإمام الراتب فيه من الصلاة، يصلون بإمامهم على طريقة الجعفري.
ت – في كل سنة يعين من حكومة إيران أمير للحج الإيراني، ويكون في الدولة العلية العثمانية أعلى شأنا من الأمير المصري والشامي.
ث – فك الأسرى من الجانبين ومنع وقوع التحقير عليهم.
ج – يعين وکيلان في الدولتين في مقر السلطنتين لأجل القيام بمصالح المملكتين، وبهذه الوسيلة ترتفع الاختلافات الصورية والمعنوية ما بين أمة سيد الثقلين (ص).
وتم التسجيل في الوثيقة خلاصة عقيدة الشيعة وشهادة أهل السنة عليها، وخلاصة عقيدة أهل السنة شهادة الشيعة. كما ضمت الوثيقة الإقرار بالخلفاء الراشدين الأربعة على الترتيب الذي هم عليه، ومدح الإمام جعفر الصادق وقبوله عند سائر أئمة المذاهب، وأن الاختلاف في بعض الفروع لا يؤدي إلى الخروج من الإسلام، مع تحريم الاقتتال بين الطرفين.
وفي النهاية تم ختم الوثيقة بأختام العلماء الحاضرين كافة، ونسخت منها نسخ حيث وضع نسخة منها في
خزانة المرقد العلوي الشريف، وجرى في اليوم الثالث الجمعة ۲6 شوال إقامة صلاة الجمعة الموحدة في مسجد الكوفة بحضور العلماء المجتمعين، وتم فيها الثناء على الخلفاء الراشدين والصحابة وعلى السلطان العثماني محمود الأول (1730-1754م ) ونادرشاه. وبعد الفراغ من الصلاة تم توزيع الحلوى وأقيمت الأفراح والمسرات.
وبالرغم من تلك الأجواء الطيبة التي اختتمت بها المؤتمر واللقاءات، فإن بوادر عدم الجدية وغياب صدق النوايا كان حاضرا، ولما يجف حبر الوثيقة التي تم الاتفاق عليها. فالشيخ عبد الله السويدي وهو في ساعاته الأخيرة في النجف صرح لكبير العلماء الملا باشي ما ينسف كل ما جاء من المقررات خاصة ما تعلق بالاعتراف بالمذهب الجعفري بقوله: (إن المذهب الذي تتعبدون به باطل ولا يرجع إلى اجتهاد مجتهد … وليس لجعفر الصادق فيه شيء، وأنتم لا تعرفون مذهب جعفر الصادق…).
ومن جهة أخرى، فإن نادرشاه وبعد انتهاء المؤتمر أرسل أحد العلماء وهو السيد نصر الله الحائري) إلى مكة لقرب موسم الحج ومعه كتاب إلى شريف مكة الشريف سعود بن سعد وكذلك إلى المفتي وإلى القاضي هناك يأمل فيها نادرشاه تطبيق ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر النجف، خاصة بالنسبة للسماح للشيعة بالصلاة في ركن خاص بالكعبة. غير أنه تم إلقاء القبض عليه وأرسل إلى دمشق ومن هناك إلى اسطنبول ليتم قتله بأمر من السلطان.
والدليل الآخر حول فشل مقررات مؤتمر النجف هو عودة الصراع العسكري من جديد بين نادرشاه والدولة العثمانية. فبالرغم من التقارب الذي حدث بين الطرفين إلا أنه لم يدم سوى بضعة عشر شهرا. إذ
قام نادرشاه بالتوغل في مناطق جنوب شرق الأناضول حتى مدينة قارص. وهذا ما يوضح لنا أن الأهداف السياسية والرغبة في السيطرة والتوسع والزعامة كانت هي الدافع الأساس لإثارة الخلافات الطائفية، مثلما كانت الأهداف نفسها في الدعوة لعقد مؤتمر النجف.
نتائج البحث
١- إن العراق كان بمثابة ساحة الصراع السياسي والعسكري بين إيران والدولة العثمانية وكل ما كان يتمخض من ذلك الصراع، كانت آثاره تظهر على الساحة العراقية ومنها قضية الخلاف الطائفي.
۲- إن العامل السياسي كان له الأثر البارز في قضية الخلاف الطائفي بين الشيعة والسنة مثلما كان له الدور الهام في الدعوة إلى التقارب بين الطائفتين في مؤتمر النجف.
٣- إن نادرشاه كان هو صاحب فكرة عقد المؤتمر في النجف بغية تحقيق أهدافه السياسية في توحيد الاتجاهات المختلفة في دولته، والظهور بمظهر الزعامة العالمية للإسلام والمسلمين.
4 – لم يكن العلماء المجتمعين في النجف على قناعة تامة أو إيمان عميق بالمؤتمر ومقرراته. وقد أكدت المناظرات وتقديرات العلماء ومواقفهم على عمق الخلاف التاريخي بين الطائفتين.
5- إن قصر مدة المؤتمر والرغبة الملحة من قبل نادرشاه في الخروج بالنتائج المرجوة من خلال الوثيقة المعدة للاتفاق، لم تستطع حل الخلاف الطائفي بين الشيعة والسنة والذي بدأ منذ قرون بعيدة.
6- إن نجاح مؤتمر النجف وغيره في التقارب بين الشيعة والسنة بحاجة إلى إرادة حقيقية صادقة من قبل السياسة والقائمين على الحكم وكذلك العلماء بالعمل وفق مبدأ الإخلاص في النوايا، والعمل من أجل خلق أجواء الحب والاحترام المتبادل ومبدأ الاعتراف بالأخر.