#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– كانت مدينة النجف اليوم تُسمّى في التاريخ ” ظهر الكوفة “، وذلك قبل أن يُدفن فيها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد اتخذ الإمام عليه السلام الكوفة عاصمة لحكومته بعد اضطراره إلى مغادرة المدينة المنورة لأجل مواجهة الناكثين لبيعته والمتمردين على الخلافة الشرعية والذين تسلطوا على مدينة البصرة.
– وبعد فترة من إخفاء أثر قبر الإمام علي عليه السلام الذي دُفن في النجف بسبب أجواء العداء الشديد للخوارج والتكفيريين وأيضاً الحكم الأموي، إلاّ أن موضع قبره قد كُشف بالكامل في زمن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ومذ ذاك توجهت أنظار عموم المؤمنين إلى ذلك المقام الشريف، وتم بعد فترة بناء القبة على قبره، وتوسعت المنطقة مع مرور الزمان بفضل توافد الزوار، وتحولت النجف إلى مدينة كبيرة يسكنها الآلاف، ويتردد اليها الموالون لأهل بيت النبوة عليهم السلام من كافة الأقطار.
– وبقيت الحال هكذا إلى أن استقر فيها العلامة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة عام ٣٨٥ هجري، واجتمع حوله مئات التلاميذ فتمّ على يديه تأسيس الحوزة العلمية أي مركز الدراسات الدينية العليا للطائفة الشيعية في مدينة النجف الأشرف، وبفضل وجود الحوزة الدينية ازدهرت المدينة، واستقطبت المئات من طلاب العلوم الدينية، وتحولت إلى مركز أساسي للقيادة الدينية عند ملايين الشيعة في العالم. وبعد وفاة الشيخ الطوسي تعاقب المراجع الدينيون للطائفة في هذه المدينة، وكانت الحوزة في النجف طوال أكثر من ألف سنة هي التي تُخرّج العلماء والمبلغين والفقهاء للطائفة الشيعية، حتى كان العام ١٩٧٩ والذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني الراحل.
– وبسبب المضايقات الشديدة التي واجهها طلاب الحوزة العلمية ومراجع الدين في النجف الأشرف وحملات التسفير منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق هاجر الكثيرون منهم أو هُجّروا إلى إيران واستقروا في مدينة قم المقدسة ليواصلوا دراساتهم في الحوزة هناك ، ولم يبقَ في النجف إلاّ العدد القليل من الطلاب والمعدودين من تلامذة المرجع الراحل السيد أبوالقاسم الخوئي الذين آثروا البقاء هناك رغم الظروف الصعبة جداً والرقابة الشديدة عليهم من المخابرات العراقية ، ومن أولئك القلة سماحة السيد علي الحسيني السيستاني.
– وبعد سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ تنفس الشيعة في العراق الصعداء قليلاً وبرز دور المرجعية في النجف الأشرف، وكان السيد السيستاني الأبرز بين أقرانه من المراجع الدينيين الآخرين في الحوزة العلمية هناك ، فاتجهت إليه الأنظار حتى أصبح هو صاحب القرار والقول الفصل في العراق ، وصار يتسابق إلى زيارته كل الشخصيات الرئيسية العراقية ومن كافة الطوائف والتيارات لتلقي التوجيهات منه وكذلك أخذ البركات، وأيضاً يتوجه كافة الشخصيات الدينية والسياسية العالمية التي تصل العراق إلى مدينة النجف خصيصاً للقاء هذا المرجع الشيعي.
– ولقد حافظ آية الله السيستاني على رزانة موقعه المرجعي ، ولم ينزلق إلى تفاصيل الحياة السياسية العراقية، ولم يتورط في الصراعات بين الجماعات والأحزاب والتكتلات، بل اقتصر دوره على التحرك في الظروف الصعبة التي يعجز الآخرون عن معالجتها، والتدخل في المراحل الخطيرة التي تداهم العراق شعباً ودولة، واتخاذ القرارت الصعبة في المنعطفات الأساسية التي يتوقف عليها مصير العراق.
– إن آية الله السيستاني كان له الدور الأساس في وقف زحف الإرهابيين على المدن العراقية واحدة تلو أخرى حتى بلغوا مشارف العاصمة بغداد ، وذلك من خلال الفتوى الشرعية التي أصدرها ودعوته إلى الجهاد الكفائي ، والذي على أثره هبّت الجماهير العراقية ، وتأسس الحشد الشعبي، وواجه المقاتلون التابعون لفتوى المرجعية الدينية بكل إيمان وعزم العصابات الإرهابية ، واستطاعوا أن يهزموا الإرهابيين ويحرروا المدن العراقية كلها من التكفيريين ، وبعد ذلك تعقبوا فلولهم في الصحراء حتى بلغوا الحدود العراقية مع السعودية والكويت وسوريا والأردن حيث كانت معبر العناصر الإرهابية ، وقامت تركيا من جهتها بمقاتلة الجماعات الكردية التي تأخذ من المناطق الحدودية في الشمال مكاناً لنشاطاتها.
– ولقد عاد الكثيرون من المسيحيين وغيرهم من الذين هجّرهم التكفيريون ومارسوا بحقهم القتل والذبح بأبشع الصور إلى منازلهم واستعادوا ممتلكاتهم بعد اندحار المجاميع الإرهابية على يد الحشد الشعبي وبمؤازرة الجيش العراقي النظامي، وقاموا بإعادة بناء كنائسهم ومعابدهم التي تم تفجيرها وتدميرها، وباتوا يشعرون بالأمان في ظل تواجد المجاهدين الملتزمين بتعليمات المرجعية الشيعية في مدنهم وقراهم، وتهيأت الظروف بعد ذلك لطرح فكرة قيام بابا الفاتيكان بزيارة إلى العراق من أجل مواساة المسيحيين وإعطاء الدعم المعنوي للذين تحملوا المخاطر وتشبثوا بالأرض وقدموا التضحيات، لكن الجميع يعلم ويقُر بصريح العبارة أن بقاء المسيحيين في العراق لم يكن ممكناً لو نجحت الجماعات التكفيرية الوهابية في بسط سلطتها على البلاد، وأن الفتوى الدينية لمرجع الشيعة السيد السيستاني واستجابة الملايين من الملتزمين بتعليماته وحملهم السلاح وتوجههم الى ساحات القتال ضد التكفيريين ودحرهم كان العامل الأساس لبقاء الوجود المسيحي على أرض الرافدين.
– ومن هنا كان من البديهي والواجب على البابا فرنسيس أن يجعل على رأس برنامج زيارته الرعوية التاريخية للعراق اللقاء مع المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في منزله المتواضع في أحد الأزقة الضيقة بمدينة النجف الأشرف، وذلك بعد مشاركته في اللقاءات الرسمية مع أقطاب الحكم بالعاصمة بغداد واستعراض حرس الشرف والتجوال في أرجاء القصور الفخمة من بقايا حقبة صدام حسين، وفي ظل الحفاوة الإستثنائية محاطاً بالفرق الموسيقية المتنوعة وحملة السيوف مرددين الأهازيج الشعبية الخاصة بالمناسبة، في حين أن المواطنين العراقيين ممنوعون من الخروج من منازلهم بسبب تفشي فيروس كورونا بصورة واسعة في البلاد، ويكون الهدف من هذه الخطوة البابوية هو قبل كل شيء تقديم الشكر للمرجع الاعلى للطائفة الشيعية باسم العالم المسيحي كله، إذ أنه سيشاهد بعينيه أثناء زيارته تلك الكنائس التي دمرها التكفيريون ثم أعيد بناؤها على أفضل وجه بعد اندحار التنظيم الوهابي داعش وسيطرة القوات العراقية وخاصة شباب الحشد الشعبي الذي كان بناؤه تطبيقاً لفتوى شرعية للمرجعية الدينية العليا، وهو سيقابل حتماً بقية العائلات المسيحية التي ذبح التكفيريون رجالها بكل وحشية، وأيضاً سيلتقي مئات النساء المسيحيات اللواتي أخذهن ” داعش ” سبايا يبيعهن لهذا وذاك، واللواتي قد تم تحريرهن على يد مجاهدي الحشد المقدس بعد هزيمة الإرهابيين، ولولا تلك الدماء الزكية التي أريقت لهذه الثلة لم يبقَ مسيحي واحد على أرض العراق.
– إن بابا الكاثوليك في العالم لما يزور مرجع الشيعة فهذا يعني فيما يعني تحقق كلام الله سبحانه في القرآن الكريم : ( ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ) ، وعندما يقرر المرجع الشيعي الموافقة على استقبال البابا فإنه يتّبع منهج جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان يكنّ كل الإحترام لأتباع الديانات السماوية والذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، وهو الذي لم يرضَ أن يعاني الفقر نصراني واحد يعيش في ظل الدولة الإسلامية ، فقال : ” أنفقوا عليه من بيت مال المسلمين “ ، وهو الذي تمنى الموت أسفاً لما سمع أن امرأة معاهدة تعيش في ظل الدولة الإسلامية اعتدت عليها العصابات التابعة لمعاوية ونزعوا عنها خلخالها، وهو الذي قال كلمته المشهورة التي لا يمكن أن يتفوّه بها أحد غيره في العالم حتى قيام الساعة وهي : ” أما والله لو استقامت لي الأمة وثُنيت لي الوسادة لأفتيتُ لأهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول صدق عليٌّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله عز وجل فيّ، ولأفتيتُ لأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول صدق عليٌّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله عز وجل فيّ، ولأفتيتُ لأهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول صدق عليٌّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله عز وجل فيّ “ ، والذي لما سمع صوت قرع الناقوس في الكوفة عاصمة دولته لم يرسل أحداً لتحطيمه وتدمير الكنسية التي انطلق منها ذلك الصوت ، بل توجه سائلاً من كان في صحبته : هل تدري ماذا يقول هذا الناقوس ..؟
– فقال الرجل : كلا يا أمير المؤمنين ، فقال الإمام عليه السلام : ” إنه يقول : ” سبّوحٌ قُدُّوس ربّ الملائكة والروح ” .
– وهل يمكن تخيل تفسير أجمل من هذا لصوت ناقوس يُقرع في جميع كنائس العالم .
– والسيد علي السيستاني السائر على منهج جده الأكبر الإمام علي بن أبي طالب استقبل ممثل السيد المسيح عيسى بن مريم والمرجع الروحي لدى كاثوليك العالم في منزله المتواضع جداً، والذي يسكن فيه منذ عقود كثيرة دون أي تغيير أو توسعة ، وحتماً سيجد بابا المسيحيين في مرجع الشيعة تجسماً إلى حد كبير لزهد السيد المسيح عليه السلام في زخارف الدنيا ، والذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ” … كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشِن ، ويأكل الجشب ؛ وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم “؛ لكن المؤسف أن حضرة البابا لم يتقدم خطوات معدودة قبل دخوله على السيد السيستاني أو بعد خروجه من اللقاء ليزور ضريح الشبيه الكامل في الزهد للسيد المسيح عليه السلام الذي صعد إلى السماء فلا يمكن لأحد على الأرض التشرف بزيارته والتقرب إلى حضرته ، والتعبير بذلك عن الولاء لمبادئه، حتى يأذن الله سبحانه له بالنزول إلى الارض في آخر الزمان .
– إن حصول هذا اللقاء التاريخي سيترك أثراً كبيراً في العالم الإسلامي والمسيحي على حد سواء، وإن بثّ مختلف وسائل الإعلام العالمية صور الإجتماع بين الزعيمين الدينيين سيؤدي حتماً إلى تفويت الفرصة على مروّجي العداوة والبغضاء بين أتباع الديانتين السماويتين ، ويؤسس لأجواء الوئام بين شريحة كبيرة من أبناء الأمة الإسلامية المنتشرين في بلاد العالم وأكثر من مليار من أتباع الكنيسة الكاثوليكية في كافة الدول ، خاصة وأن الروايات المتواترة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام تؤكد على أن السيد المسيح عليه السلام سينزل من السماء فور ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، وهما سيعملان معاً على إزالة الظلم والجور من الأرض وإقامة القسط والعدل بين البشر .
– وإن من الطبيعي أن المؤمنين بالمسيح حقاً والذين سيسيرون خلف إمامهم عيسى بن مريم بعد نزوله إلى الأرض بأمر الله ، والمسلمين الصادقين الذين سيسيرون خلف إمامهم المهدي المنتظر بعد ظهوره من الغيبة الكبرى بإذن الله ، سوف يجدون أنفسهم تلقائياً جنباّ إلى جنب وكتفاً إلى كتف في مسيرة واحدة لكونهم يرون بأم العين مهدي آل محمد ويسوع المخلص يسيران معاً وعلى طريق واحد، وهما يحملان راية العدل سوياً، ويطالبان بحقوق البؤساء والمعذبين متعاونين ، ويواجهان الظالمين والمستكبرين متكاتفَين ، ولا يمنع أن يكون انعقاد هذا اللقاء الفريد بين نائب الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه وممثل السيد المسيح عليه السلام فيه تهيئة لنفوس البشرية التي تعاني من الحروب وأنواع البلاء استعداداً لاجتماع المؤمنين بالمسيح المخلص والمهدي المنتظر في أقرب وقت بمسيرة واحدة وتحت راية واحدة، وهنا ). صدق الله العلي العظيم .
– بقلم : السيد صادق الموسوي :