#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– من سخرية القدر أنّ وباء كورونا وفّر في البداية فرصة نموذجية لبنيامين نتنياهو لحرف الأنظار عن الاتهامات التي تلاحقه بالفساد وتدهور الاقتصاد وطرح الضم كأولوية، ولكنه تلقّى بعد الموجة الثانية لكورونا لطمة قاسية له، من معالمها تأجيل تنفيذ الضم القانوني، وتراجع شعبيته بشكل مضطرد، نظرًا لتردي الاقتصاد بحدة، ما جعل الضم ليس أولوية للمواطن الإسرائيلي الذي تردّت أحواله بحدّة، حتى أصبح حجم العاطلين عن العمل ربع القوى العاملة.
كما يسعى نتنياهو من خلال الإقدام على الضم إلى الشروع في المرحلة الثانية المتمثلة في إقامة “إسرائيل الكبرى”، وتسجيل اسمه إلى جانب “الزعماء العظام” في الحركة الصهيونية، مثل ديفيد بن غوريون، وزيادة شعبيته ليستطيع مواصلة الحكم، وتجنب حكم القضاء ما دام رئيسًا للوزراء في حال استطاع تمرير قانون بالحصانة القضائية لرئيس الحكومة طالما هو في سدة الحكم.
لقد ظهر نتنياهو في الموجة الأولى من الوباء أنه اقترب كثيرًا من تحقيق هدفه من خلال نجاحه – مستفيدًا من فيروس كورونا – في شق حزب “أزرق أبيض”، وتشكيل حكومة مع بيني غانتس، حصل فيها على صلاحية اتخاذ قرار بخصوص الضم بدءًا من الأول من تموز من دون موافقة شريكه في الائتلاف الحكومي، وسط تصاعد في شعبيته بشكل كبير، لدرجة قدرته كما أشارت الاستطلاعات إلى تشكيل حكومة يمينية صرفة، ما جعله يهدد ويستعد لإجراء انتخابات رابعة، وخاصة وهو يتباهى أمام شعبه وزعماء العالم في كيفية سيطرته على الفيروس اللعين .
في الأسابيع الأخيرة، انقلب السحر على الساحر، وتغيّر الموقف كليًا وانتشر الوباء بمعدلات كبيرة، حتى تخطى عدد الإصابات 50 ألفًا، وتحوّلت التداعيات الاقتصادية إلى أزمة متفاقمة دفعت معظم الجمهور إلى تحميل نتنياهو وحكومته المسؤولية عن هذا التدهور المرشح للاستمرار، ونظّمت المظاهرات أمام بيته، فيما وصف بأنه يشبه هجوم الباستيل الشهير.
يضاف إلى ذلك أن كورونا ضرب ضربته الكبرى في الولايات المتحدة مخلفًا خسائر كبرى للاقتصاد الأميركي، لدرجة أن صندوق النقد الدولي توقّع تراجع معدل النمو في الناتج المحلي إلى سالب 4.9%، بدل من الزيادة التي كانت متوقعة فوق 3%، وما رافق ذلك من إغلاق وإفلاس آلاف المؤسسات، ورفع عدد العاطلين عن العمل من 12 مليون قبل كورونا إلى أكثر من 45 مليون حتى الآن.
أدى هذا الفشل المدوي لإدارة ترامب المترافق مع نجاح الصين في احتواء الوباء، مع توقّع بنمو الناتج المحلي فيها لهذا العام وفق صندوق النقد الدولي 1%، إلى تراجع شعبية ترامب، لدرجة أن معظم الاستطلاعات والمراقبين أجمعوا على أن الانتخابات الأميركية إذا جرت الآن، أو في ظروف مشابهة لها فإن سقوط ترامب مرجح إن لم يكن حتميًّا.
كما أن هذا الأمر وتداعيات مقتل جورج فلويد والهبة المناهضة للعنصرية وسلسلة الفضائح والانتقادات التي تلاحق ترامب بعد نشر كتابي جون بولتون، وابنة أخيه ماري ترامب، أدت إلى تخبط غير مسبوق للرئيس الأميركي في مرحلة البطة العرجاء التي يمر بها أي رئيس أميركي يتطلع إلى ولاية ثانية عشية إجراء الانتخابات. ففي هذه الفترة لا يستطيع أن يتخذ قرارات جوهرية خشية من عدم القدرة على السيطرة على تأثيراتها.
في هذا السياق، ترددت إدارة ترامب في المضي قدمًا بتنفيذ رؤية ترامب، خصوصًا ما يتعلق منها بخطة الضم التي كان هو وفريقه “للسلام” متحمسين لتنفيذها أكثر من الكثير من الإسرائيليين المتطرفين.
يكمن جذر التردد في الخشية من أن يؤدي الضم بعد وباء كورونا وتدهور الاقتصاد إلى تداعيات فلسطينية وعربية ودولية تزيد من احتمالات خسارة ترامب في الانتخابات القادمة، لدرجة أن سيد البيت الأبيض حذر من تزوير الانتخابات، ولوّح بالحرب الأهلية إذا خسر. ويظهر ذلك في النصيحة التي قدمها جاريد كوشنر، مسؤول الفريق وصهر الرئيس، إلى إسرائيل بالتريث، والتركيز على الضم الفعلي (بلا ثمن يذكر)، من دون ضم قانوني وإعلانات كبيرة قد تسبب خسائر لا داعي لها.
شجع الموقف الأميركي غانتس وحزبه على الاعتراض على تطبيق الضم من دون عملية سياسية، رغم أنهم تركوا في الاتفاق الائتلافي حرية القرار لنتنياهو بخصوص الضم، ومن دون موافقة أو عدم معارضة حادّة من الفلسطينيين والأردن ومصر والعرب والأوروبيين، خصوصًا مع اندلاع حرب باردة صينية أميركية مفتوحة على احتمالات عدة، تجعل الإدارة الأميركية بحاجة إلى حلفائها الأوروبيين والعرب.
لا يعني ما سبق أن الضم القانوني لن يحدث، فالضم قائم ويزحف باستمرار، ويمكن أن يطبق من خلال فرض السيادة الإسرائيلية، فهو مقرّ في برنامج الحكومة ولم يتم التراجع عنه، وهناك سيناريوهات عدة: أولها وأكثرها احتمالًا تأجيل الضم لأسابيع أو أشهر، والإقدام عليه، ولكن بشكل رمزي ومحدود قبل الانتخابات الأميركية.
أما السيناريو الثاني، فيتضمن احتمال تأجيل الضم إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، حيث لا تعني خسارة ترامب إسقاط الضم بالضرورة، بل يمكن أن يطبق في الفترة الفاصلة ما بين فوز الرئيس الجديد في 3 تشرين الثاني 2020، واستلام الحكم في 20 كانون الثاني 2021، التي تقارب ثلاثة أشهر، وفي هذه الحالة تضع الحكومة الإسرائيلية إدارة بايدن أمام واقع جديد تم فيه الضم، حيث ستضطر للتعامل معه أو رفضه من دون فرض التراجع عنه. وإذا فاز ترامب سيكون نتنياهو مرتاحًا ولديه الوقت الكافي لتطبيق الضم في الوقت الذي يناسبه.
وهناك سيناريو يقوم على تفضيل نتنياهو إجراء انتخابات رابعة يطبق الضم عشية إجرائها أو غداتها، ولكن احتمالات هذا السيناريو تتراجع حاليًا مع تراجع شعبية نتنياهو. ويمكن أن يبرز إذا تصاعدت أو حصل خلاف في الحكومة أدى إلى الذهاب إلى انتخابات مبكرة، لن تكون مضمونة النتائج.
وهناك سيناريو أخير، ولو قليل الاحتمال، يتحقق بوقف الضم مقابل استئناف المفاوضات التي ستجري فيها، إذا استؤنفت، محاولة لإقناع الفلسطينيين بالموافقة على الضم مقابل مكاسب اقتصادية وسلطة حكم ذاتي تسمى “دولة”.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأن ترامب سيبقى مترددًا، أم لا، بل قد يغيّر رأيه ويشجع على الضم فور أو عشية الانتخابات إذا وجد أن هذا سيزيد فرصه، خصوصًا أن أحد أبرز الزعماء الأنجليكان هدده بعدم منحه أصواتهم إذا تراجع عن الضم. وهذا قد يكون مجرد تهديد لأنهم في أغلب الحالات سيصوتون له إلا إذا حسم أمر خسارته للانتخابات، وعندها لا يجدى تصويتهم له من عدمه.
ما يحدث من مفارقات وسخرية القدر من حدوث تأثير متعاكس لفيروس كورونا خلال فترة وجيزة تستدعي التأمل، وتطبيق التفكير الإستراتيجي، وتحديدًا منهجية السيناريوهات، وهي تتضمن اجتهادات متنوعة عديدة، منها وجود خمسة سيناريوهات: الأول، استمرار الوضع الراهن، ويحوز في العادة على 50%؛ وسيناريو تحسنه إيجابًا أو تراجعه سلبًا، وكل منها يحصل على 20%، وهناك سيناريو المعجزة، وسيناريو اللعنة، أو البجعة السوداء، وكلاهما يحصل على 5%، وكل منهما يعدّ سيناريو قليل الاحتمال ولكن إذا حصل يحدث تغييرًا حاسما إيجابًا في سيناريو المعجزة، وسلبًا في سيناريو اللعنة.
وهذا ينطبق على ما حصل بعد وباء كورونا، حيث لم يكن متوقعًا حدوثه، وأدى إلى متغيّرات كبيرة لا تزال مستمرة، وليس معروفًا إلى ومتى سينتهي، والعالم بعده لن يكون مثلما كان قبله، إلى الأحسن أو إلى الأسوأ او إلى أي حد. وهذا ما لا يمكن الجزم به منذ الآن، ومن يجزم ويتحدث عن احتمال حدوث هذا أو ذاك من السيناريوهات بنسبة 100%، فهو ينتمي إلى التنجيم وادعاء اليقين والرجم بالغيب، ولا يعتمد أي منهج علمي أو عقلاني، ولا ينتمي إلى التفكير الإستراتيجي والدراسات المستقبلية.
تكمن النجاة في دراسة كل السيناريوهات واحتمالات حدوثها، وكيفية التأثير عليها عبر وضع السيناريو الأفضل أو الأقل سوءًا إلى الأمام، بحيث نكون جاهزين لها جميعًا، لأننا لا نتحكم كليًا ولا كثيرًا في حالنا الراهن – الذي يعاني من الضعف والانقسام والتوهان – بالعوامل والمتغيرات التي تؤثر عليها.
أما التمترس خلف خيار أو احتمال أو سيناريو وكأنه الوحيد لا ثاني له، أو قدر لا راد له، فهذا يفقد صاحبه القدرة على المبادرة والفعل والتأثير، ويجعله رهين الانتظار والمجهول والأعداء.
كما لاحظنا فإن فيروس كورونا ليس شرًا كله، بل سبب مأزقًا خطيرًا وخسائر ضخمة، وله فضائل ذكر بعضها ولم يذكر البعض الآخر، مثل سقوط منهج الليبرالية المتوحشة، والعولمة، ودفع الشعوب والبلدان إلى الاعتماد على نفسها وليس التبعية للآخرين، وبذلك يوفر فرصًا تنتظر من يحاول الاستفادة منها.