في سورية تُرسم خرائط المنطقة و العالم .. بقلم : صالح عوض الكاتب والباحث والخبير الاستراتيجي _ بروكسل

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

في مرحلة حساسة أعقبت الحرب الباردة لم يدرك النظام العربي أي مرحلة خطرة هو داخلها فارتكب خطآن كبيران :

– الأول : في قراءته السياسية للمعادلة الدولية عند غزوه الكويت .

– والثاني : في حساباته الداخلية الإقليمية حول نتائج المواجهة العنفية للمعارضة السورية الشعبية ، كان الأعداء يتربصون به .

– وجاءت الفرصة السانحة للخطة المبيتة فسقط العراق الذي إندفع مع إيران في حرب لثمان سنوات لا يستسيغها العقل ولا المصلحة ، ودمرت سورية التي ظنت ان بصداقتها لتركيا وقطر وبالتزامها وقف النار يمكن آن تحقق توازنا سياسياً خارجياً ، وأن تحصل بولصة التأمين على السلامة الأمنية في مواجهة تحديات وافدة .. وكانت سورية الجدار الأخير الذي بانهياره تسقط جزيرة العرب ، ودول عربية كثيرة .. ولهذا السبب كانت المعركة صعبة وعاصفة اشترك فيها الجميع بحثاً عن دور آو حرصاً على نفوذ .. فهنا في بلاد الشام ترسم خرائط المنطقة والعالم .

– احتشاد العالم :

– في سورية الموقع الاستراتيجي الخطير حيث لا حرب بدونه ولا سلام إلا به حدث التكثيف الدولي والإقليمي ، كما لم يحصل في بقعة أخرى .. تتعرض سورية منذ عشر سنوات لأعنف عملية شد في أكثر من اتجاه بفعل عدة أبعاد تكاد تمزقها وتمسح هويتها الوطنية والقومية : روسيا وتدخلها المباشر الأمني بجيشها ومستشاريها الأمنيين والسياسيين، وإيران بحضورها بمستشاريها وإمكاناتها وبالمجموعات المسلحة الموالية لها اللبنانية والأفغانية والعراقية ، وتركيا ودول الخليج لاسيما قطر والمجموعات المسلحة التي لها علاقات بهما ، والأمريكان والانفصاليين الأكراد ، والكيان الصهيوني المتربص بنتائج الصراع .

– إن كل بعد من هذه الأبعاد يكاد يمثل بمفرده تحديا كبيراً أمام سورية في تغيير طبيعتها أو دورها أو وجهتها بعد أن أصبح سبع ملايين سوري خارج بلادهم وتمزق البلد ودمرت أبنيته التحتية .. في هذه الأبعاد يزدحم الوهم مع الحقيقة والخرافة مع الواقع والأسطورة مع الأهداف الإستراتيجية والأحقاد التاريخية مع مبررات عقائدية والأدوار المحتملة .. وسورية تدفع الثمن الأغلى في عملية التنازع القائمة بعد أن أصبحت أرضها مسرحاً لكل أصحاب المشاريع السياسية والعقائدية ، لأن الدول ليست جمعيات خيرية .. و ” السؤال هنا .

– كيف يقيم كل بعد من هذه الأبعاد علاقته بالأبعاد الأخرى ..؟

وما هي مآلات العلاقة في المستقبل ..؟

– وما هي حدود تحقيقه لأهدافه الإستراتيجية ..؟

– انتحار الربيع العربي :

– لقد كانت الشعوب وطلائعها الحرة محقة بالمطالبة برفع القيود والتصدي لتكميم الأفواه والمطالبة بالحريات والحقوق التي تم تجاهل كثير منها من قبل النظام العربي بل كان تصدي النظام العربي في معظم الأحيان عنيفا ومتعسفا ومن هنا كان الإختراق الذي دخلت من خلاله السياسة الأمريكية وحولت الغضب الشعبي كما النخبة إلى مهمات أخرى تتركز في تكسير الدولة وتبديد وحدة الشعب والوطن وذلك في إطار خطة إستراتيجية لم تخفها الإدارة الأمريكية “الفوضى الخلاقة”.. لم يمر مخطط الشرق الأوسط الجديد أو حسب اصطلاح كونداليزا رايس الفوضى الخلاقة بسلاسة .. فلقد كان صمود الدولة السورية في كل المؤسسات الدبلوماسية والأمنية والمدنية حجر ارتكاز لمرحلة أخرى بمعطيات أخرى  في غير اتجاه المخطط له أمريكياً .

– حيث كان المتوقع ان ينتهوا من سورية خلال أشهر قليلة يتم في أعقابها تدمير السعودية ودول عربية أخرى كما يتم توزيع الجغرافيا على الأقليات والطوائف مما يحقق الضمانة الحقيقية لأمن الكيان الصهيوني.. وعلى ارض سورية يتم تمرير كل المشاريع من مد أنبوب الغاز القطري نحو أوربا وإقامة قواعد عسكرية غربية في موقع استراتيجي مطل على دول المنطقة الحساسة .. وما نشهده من نتائج الصراع الآن يعني بوضوح ان الأمور لم تسر كما خططوا لها وهاهي الإدارة الأمريكية وأدواتها  من دول ومجموعات تعلن عن عجزها وفشلها وتتلاوم في أسباب الهزيمة.

– الدور الروسي :

– روسيا في سورية تحارب الإرهاب، وروسيا مع تركيا تفتح صفحات التعاون الاستراتيجي وتبيعها نوعية سلاح متطور للغاية ، وروسيا في الخليج والسعودية تفتح أبواب الاستثمار، وروسيا في المنطقة تؤمن وجود الكيان الصهيوني بتفاهمات عميقة ، وروسيا تغرب وتشرق في الوطن العربي بأريحية وتتدخل في كل القضايا العربية ليبيا وفلسطين .

– فماذا تريد روسيا ..؟

– وما هو المسموح لها دولياً أن تلعبه ..؟ 

– من غير المنطق ان يتم ذلك بعيداً عن تفاهمات إستراتيجية مع الأمريكان لاسيما في مناطق تمثل للأمريكان حساسية خاصة، بل وتفاهمات إستراتيجية مع قيادة الكيان الصهيوني تضمن الأمن وحماية الوجود ، حيث يجمع الروس في أيديهم علاقة إستراتيجية مع الكيان الصهيوني دون ان نغفل ان أكثر من مليون روسي الآن موجودون في فلسطين يشكلون خمس الكيان الصهيوني ، وهكذا يصبح من الضروري توسيع دائرة الرؤية الى مواقع جيوسياسية عديدة في أوكرانيا والدرع الصاروخية الأمريكية وبحر الصين وكوريا الشمالية والغاز الروسي وبحر قزوين والمتمردين المحتملين في مناطق عديدة في روسيا و الجمهوريات التي كانت في ظل الاتحاد السوفيتي .. ويمسك الروس بتحالف قوي مع إيران اقتصاديا وامنيا وسياسيا الى درجة تشكيل قوة دولية إقليمية من روسيا وأذربيجان وإيران تعمل على توسيع دائرتها بدول إقليمية أخرى ويمسك الروس الان بعلاقات متسارعة مع الأتراك بعد ان وجهت التهمة الى الأمريكان والغربيين وبعض الأطراف العربية في المشاركة بالانقلاب الفاشل، وبعد تعطيل أمريكاً تزويد تركيا بالطائرات العسكرية ف 35 .

– ومن جهتها لا تبدي مصر تردداً في ضرورة تفعيل الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الروسي وتطويرها باتفاقيات جديدة .. حتى ان السعوديين قد ابدوا اهتماما بالغا لعلاقات إستراتيجية مع الروس رغم ما يبدو من ازمة جراء ضخ المزيد من النفط.. وهكذا يمكن النظر إلى مساحات التداخل والاشتباك بين المصالح الغربية والمصالح الروسية و قضايا الصراع والتوافق في المنطقة والعالم .

– تراجع الدور الأمريكي :

– وجد الإستراتيجيون الأمريكان أن انشغالهم في الإقليم يستنزف قوة دفعهم ويحرمهم من مواجهات ضرورية وإستراتيجية ضد الصين وكوريا الشمالية وروسيا في مواقع المواجهة الحقيقية بعناوين الدرع الصاروخية ونشر الغواصات النووية في بحر الصين ومواجهة الغول الصيني والتهديد الكوري .. وفي الوقت التي تمثل المنطقة بوابة أمنية خطيرة على روسيا لاسيما ان تصورنا في جوهرها الدولة التركية التي انخرطت في سنوات فائتة في تدريب وتسليح مجموعات مسلحة يمكن ان تتمدد الى روسيا وأماكن التوتر فيها . 

– في ظل تقييمات الموقف هذه تحرك الروس للتدخل في الإقليم بالتوافق مع الأمريكان في لحظة تاريخية فارقة بعد أن فشل التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق.. فلقد أنهكت المقاومة العراقية الجيوش الأمريكية وألحقت بها خسائر معنوية ومادية وأخلاقية معتبرة وأظهر الأمريكان فجاجة في السياسة وجهل في إدارة الأزمات وضعهم في صورة القوة الغاشمة الظالمة المستهدفة

– فهل هذه رغبة أمريكية مبيتة ضد روسيا بتوريطها في صراع مع مجموعات مسلحة ممكن تشغيلها لتتحرك إلى الأراضي الروسية بعد انقضاء الحرب في سورية؟؟ كل شيء محتمل حيث تكمن في روسيا اثنيات قابلة للانفجار في أي لحظة .

– تركيا وإيران :

– تركيا تتحرك في الموضوع السوري ببعدين احدهما وطني والآخر إقليمي فعلى صعيد المصلحة التركية وجدت السياسة التركية ضرورة تحطيم الاقتصاد السوري وإلحاق سورية بها والاستفادة من الجغرافيا السورية بتواصل مع المنطقة العربية الخليجية وعلى الصعيد الإقليمي تتحرك تركيا لإنشاء فلك اقتصادي سياسي كبير يشمل الدول العثمانية على الأقل المحيطة بتركيا لتكون مجال النفوذ التركي المعاصر ككتلة اقتصادية وإستراتيجية ووجدت في انتفاضة بعض المناطق السورية فرصة لتنفيذ ما تريد بدعم قطري سعودي فائق وفي ظل توافق غربي وأمريكي بل ودعم فرنسي ألماني وكادت جهود تركيا ودول الخليج وأوربا تحقق انهيار الجدار الأخير وتمت السيطرة على أكثر من ثلاث أرباع سورية ومحاصرة دمشق فكان التدخل الإيراني و من بعد الروسي لدعم الدولة السورية الكفة الأخرى في الصراع التي كلفت تركيا ودول الخليج خسائر فادحة .. وبعد انحسار دور قطر والسعودية في الصراع الدامي وبعد تراخي الموقف الدولي و إرهاقه لاسيما في مرحلة كورونا يبدو أن الموقف التركي اقترب كثيراً من الموقف الروسي الصديق اللدود ووجود تفاهمات عديدة حول عدة ملفات .

– إيران لم تتردد في علاقتها الإستراتيجية مع سورية منذ انتصار الثورة الإسلامية ووجدت في سورية المنفذ الوحيد من حصار عالمي فرض عليها منذ أكثر من أربعين سنة .. ورأت سورية في الموقف الإيراني من الصراع العربي الإسرائيلي سندا حقيقيا لموقفها لاسيما بعد انزياح الموقف الرسمي المصري إلى اتفاقيات كمبديفد ..

– ولهذا كان من غير المتوقع ان تشاهد سقوط الجدار العربي الأخير وحليفها العربي الاستراتيجي الوحيد فهبت منذ اللحظات الأولى وحشدت كل ما تستطيع من قوة وأصدقاء وحلفاء لإيقاف التدهور في الساحة السورية ولعلها هي من اقنع الروس بالتدخل وبقوة لحسم المعركة مقابل امتيازات كبيرة يحققها السوفيت من خلال علاقتهم الاقتصادية بإيران ومصلحتهم في التواجد في منطقة غاية في الحساسية تعتبر مفتاح الحرب والسلام في المنطقة على الأقل .. ومما لاشك فيه أن إيران قدرت أن مدها في المنطقة وخريطة تحالفاتها ستنهار تباعا إذا سقطت الدولة السورية لاسيما والعديد من المجموعات المسلحة لم يخف أهدافه التكفيرية.. ثم إن إسقاط المخطط الأمريكي هنا يعني حماية للعمق الإيراني .

– الموقف من الروس :

– كانت تركيا مع سقوط الدولة السورية فيما كانت إيران مع بقاء الدولة السورية .. وسقوط الدولة السورية يعني تشتت البلد وتمزقه اثنيا قومياً وطائفياً وجهوياً .. كما ان بقاء الدولة السورية بالشكل القائم يعني ان تكون الضحية ملايين المشردين من سورية.. كان على تركيا رفض الخيار العسكري الداخلي وكان على إيران النصح للنظام  الابتعاد عن المعالجات الأمنية والدخول في وساطات لإيجاد توافق بين الأطراف السورية.. لم تقم أي من الدولتين بما هو مطلوب أو أن الأمر كان مستعصيا وهنا ليس مجال تحميل مسئوليات إنما إشارة لحجم الخسارة التي لحقت بسورية والأمة .

– هناك ملاحظات عديدة يمكن تسجيلها على التدخل التركي والتدخل الإيراني ونتائج تدخلهما ولكن ليس هذا هو المقصود في هذا المقال الذي يحاول بحث العلاقة بين العوامل الثلاثة الروسي والتركي والإيراني بخصوص الدولة السورية .

– رغم ما بين تركيا وإيران من تباين في الأهداف بخصوص الشأن السوري ، إلا أن علاقات متميزة بينهما وان وجودهما في المشهد كدولتين إقليميتين كبيرتين لديهما حساسية بالغة من التدخل الأجنبي ولهما طموحهما ومشروعهما ولديهما من القوة ما يكفي لحماية قرارهما وموقفهما كل هذا لن يسمح للوجود الروسي ان يكون استعماراً .. صحيح ان الروس قد حققوا أهدافا عديدة حتى الآن لكن لجمها يقع على عاتق تركيا وإيران .

– ومن هنا يصبح التفاهم التركي الإيراني الاستراتيجي ضرورة حقيقية لمستقبل المنطقة وهذا يستدعي تعديلات وتوجهات جديدة لاسيما تجاه دول المنطقة ومكوناتها في انتظار تماسك الموقف العربي  لكي لا يكون ثمن استعادة الجغرافيا السورية إخراج سورية من دورها الطبيعي والتاريخي في مواجهة العدو الصهيوني .. وتكرار القصف الصهيوني لمواقع في سورية وايرانية محاولة لرسم السياسة بالنار في ظل السكوت الروسي ان لم يكن الرضى الروسي يعني ان هناك وظيفة اخرى للوجود الروسي في سورية وهنا لابد من الانتباه ان القضاء على حالة الفلتان الامني يجب ان تصاحب بسيادة القرار الوطني السوري وفي هذا تستطيع تركيا وايران ان تضمناه بتفاهمات عميقة بينهما . 

للأسف كان الدور العربي سلبياً منذ بداية الأزمة وهو الان غير مهيأ للتحرك لرأب الصدع. . فيصبح المطلوب هنا توافقا تركيا إيرانيا لاعمار سورية وإعادة اللاجئين والوقوف مع الدولة السورية لاستعادة هيبتها وسيطرتها مع توفير كل السبل لحياة سياسية داخلية تصون كرامة المواطنين وحقوقهم السياسية والاجتماعية .. ومطلوب تماماً الانتباه للدور الروسي كي لا يتجاوز حدود محاربة الإرهاب  فكثيراً ما يتحول الصديق إلى استعمار .. والله غالب على أمره .