#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
جهاز القضاء في السياق الاستعماري
– يمكن القول إن أجهزة القضاء في الدول والأنظمة المختلفة تعيد إنتاج التشريعات والقوانين والتعليمات المختلفة وتشكيلها بما يتناسب مع ثقافة شعوب وأمم تلك الدول وتاريخها ومصالح أنظمتها. في هذا السياق تصبح التشريعات والقوانين والتعليمات الموحدة في الشكل مختلفة في مفاهيمها وتطبيقاتها. تختلف حقوق الإنسان على سبيل المثال في دول الرفاه الاجتماعي وتنحو أكثر نحو الجمعي عنها في الدول الرأسمالية التي تقدس حقوق الفرد على حساب الجماعة. وفي السياق الاستعماري، تبنّى المُستعمرون الأوروبيون الديمقراطية لهم في جنوب أفريقيا على حساب سكان البلاد الأصليين. كذلك يعتبر المُستعمرون اليهود في فلسطين أن الديموقراطية وحقوق الإنسان لهم وحدهم دون غيرهم من العرب إذ يتجلى هذا في محاولاتهم المحمومة لمصادرة ثراوتهم المادية والروحية: الأرض والمياه والوعي.
يُضاف إلى النموذجين المذكورين نموذجان استثنائيان يتعلقان بقضية العرق في السياسة والتشريع. الأول- النموذج الألماني النازي الذي جنح إلى نظرية العرق التي باتت نتائجها معروفة (…)، والثاني- إسرائيل التي تعتبر اليهود “شعب الله المختار” والعرب هم الـ (goyem) ولا حقوق لهم في هذه البلاد، فتنكر لهم وطنهم. لهذا السبب رحبت بعض النخب اليهودية بصعود النازية للسلطة وقد وضع الرابي (Prinz) كتابه (wirJuden) سنة 1934 مع صعود النازية مباشرة. وما قانون القوميّة إلا تعبيرًا لهذا النموذج. ومن لا يدرك معاني وتداعيات “شعب الله المختار”- مقابل الـ(goyem) التي أصبحت مغناة صاخبة في فترة سلطة (نتنياهو) فهو عاجزٌعن الفهم والإدراك.
محكمة العدل العليا وشرعة جرائم الاحتلال
كنت قد كتبت أكثر من مرّة أن مهام جهاز القضاء في إسرائيل هو إعادة إنتاج ذلك الجهاز ضمن سياقه الاستعماري، أي بناء جهاز قضائي يعمل على شرعنة تشريعات وقوانين (الكنيست) التي يتم اقتراح 80% من قوانينها من قبل الحكومة. أي أنها مهام تعمل لإضفاء الشرعية على ممارسات الاستعمار اليهودي في فلسطين الانتدابيّة. والجدير بالذكر أن محكمة العدل العليا تضطلع بمهام المحكمة الدستورية، ومن يراجع ملفات قراراتها قلما يجد إنصافًا لعربي في قضايا مصادرة الأراضي وهدم المنازل والنضال الوطني (الوعي).
فهي التي أضفت الشرعية على مصادرة الأراضي وهدم المنازل وبناء الجدار وتعذيب المناضلين والنشطاء السياسيين أثناء التحقيق، وشكّلت مصيدة العسل للعرب الذين اعتقدوا أنها ستكون ملاذًا آمنًا أو شبه آمن للعرب من قمع الأنظمة العربية وتعسفها. والذين يعون دورها في إنتاج النظام الاستعماري لم ينتظروا سماع النتيجة التي توصل إليها الدكتور حسن جبارين، القائم على مشروع (عدالة) منذ أكثر من ثلاثة عقود، والذي اتبع نهج ومنهج التوجه إليها في كل قضيّة تخصّ الجماعة العربية في فلسطين، يقول جبارين: “[إن] توجه المحكمة العليا مؤشر خطير على مستقبل تمثيلنا السياسي”، فالعمل السياسي هو حاصل نشاطات عرب فلسطين في كل المجالات. جاء تصريح جبارين بهذه النتيجة في سياق حديث مطوّل مع الصحفي سليمان أبو ارشيد ونُشر في موقع عرب 48 بتاريخ 15. 3. 2020.
ويمكن القول إنها مصيدة العسل التي أشرت إليها في السابق والتي لا تقل مأساوية عن قصة أحد زعماء سكان أمريكا الأصليين الذي قاوم الغزاة الأمريكان، إلا أنه بعد أن اعتقلوا نجله تقلصت مطالبه بأن يحاكَم بعدالة وفقًا لقوانين الغزاة أنفسهم! ويشكلّ الحديث مع د. جبارين فاتحة لنقاش نقديّ حاد عن تداعيات استمرار التقاضي أمام المحكمة العليا في المسائل التي تخصّ الشعب الفلسطيني، وليس الجماعة الفلسطينية، بأعين أكثر المُتنورين في جهاز القضاء الإسرائيلي.
كفر برعم وإقرث والغابسيّة و(أدلشطاين)
عندما احتلت العصابات الصهيونية قريتي إقرث وكفر برعم في تشرين الأول 1948 “أخرج” أهاليهما منهما واعدين إياهم بالسماح لهم بالعودة بعد أيام. لكن بعد سنتين من مطالبات الأهالي بالعودة ورفض الجيش عودتهم توجهوا إلى محكمة العدل العليا التي أصدرت قراراها في الحادي والعشرين من تموز 1951 بعدم ممانعتها عودة الأهالي إلى قريتهما. وفي الثلاثين من شهر كانون الثاني في نفس السنة أصدرت المحكمة ذاتها قرارها بإعادة أهالي الغابسية إليها.
إلا أن الجيش وبعد سبعين سنة لا يزال يرفض عودة اللاجئين بحجة “الأمن”. ومنذ ذاك الحين تمارس محكمة العدل العليا الدور المنوط بها بإعادة إنتاج الجهازين والمنظومة القضائية والحقوقية للكيان على حساب العرب.
يقضي القانون الإسرائيلي بضرورة انتخاب رئيس للكنيست في أول جلسة تعقدها بعد الانتخابات مباشرة، وقد تم تطبيق هذا القانون بحذافيره على مدار 22 دورة كنيست.
لكن عندما تيقنت الكتلة التي يتزعمها نتنياهو بوجود أغلبية 61 لعزل رئيس الكنيست الـ23، (يوري أدلشطاين)، وانتخاب رئيس آخر بدلًا منه حرّضته على عدم احترام ما ينصّ عليه القانون وتمترس (أدلشطاين)في موقعه. توجه تجمع الكُتل الذي يضم 61 عضوًا برئاسة غانتس إلى محكمة العدل العليا، بعدها ليطلب منها أن تُلزم (أدلشطاين) بعقد جلسة لانتخاب رئيس جديد للكنيست. لكن الذي يقف على رأس برلمان “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” رفض الامتثال لقرار المحكمة مُعتقدًا أنه لا يزال يعيش أجواء سجنه في الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي وأن الصهيونية العالميّة ستعفيه من تطبيق قرار المحكمة، لكنه عندما أيقن أن عدم الامتثال لقرارها سيدخله في ورطة استقال قبل الامتثال لقرار المحكمة، عازيا ذلك لأسباب ضميرية! وبذلك أدخل مجمل الجهاز القضائي الإسرائيلي في ورطة سنأتي على تداعياتها لاحقا.
مما تقدم يمكننا الإمساك بجنزير- وليس بخيط- عدم احترام قرارات المحكمة العليا من طرفيه: الأول- رفض السلطة التنفيذية (حكومة الكيان) تطبيق قرار المحكمة بإعادة لاجئي كفر برعم وإقرث والغابسية إلى قراهم؛ والثاني- رفض رئيس المجلس التشريعي (الكنيست) تطبيق قرار المحكمة ذاتها بالسماح للكنيست انتخاب رئيس جديد لها. ما بين القرارين سبعون سنة من قرارات محكمة العدل العليا (والجهاز القضائي) كلّها على حساب العرب، والشيء الجديد في رفض (أدلشطاين) هو “خلخلة أسس الديمقراطية” كما وصفها البروفسور (دانييل فريدمان) الذي تم تعيينه وزيرًا للقضاء (2007-2009) من قبل السجين السابق بقضية فساد، الذي كان ذات مرة رئيسًا للحكومة، إيهود أولمرت، كي يعمل على “إضعاف” دور المحكمة العليا ومكانتها في قضايا الاستئناف ومراجعة القوانين المسنونة.
كتب فريدمان مقالًا في (24.3.2020ynet)، قال فيه إن “تدخل محكمة العدل العليا هذه المرة شرعي وضروري” لكنه عاد إلى نقده لها في قضايا كثيرة، وقد كرر مضمون المقال ذاته في مقابلاته التلفزيونية والإذاعية. ومن تداعيات رفض (أدلشطاين) الامتثال لقرار المحكمة هو محاولة الجنائيين الكبار- أمثال (نتنياهو) والصغار ممن يتأخرون عن تسديد الفواتير- تحويل هذه السابقة إلى ثغرة في القانون ومن ثم إلى طريق لعدم تطبيق أحكام المحاكم المختلفة.
وصف الكاتب الصحفي (أوري مسجاف) أن ما حدث هو “انقلاب” (هآرتس، 25. 3. 2020). والبعض وصفها “بالفاشيّة” لأن تراث الانقلابات في التاريخ الحديث هو في الغالب من فعل القوى الفاشيّة التي تفشل بالاستمرار في فرض سلطتها بواسطة الديموقراطية.
(كارل شميدث): اليهود أعداءٌ الـ (goyem/ العرب)
بحث العديد من فقهاء علوم الدولة في أسباب قصور الديمقراطية الإسرائيلية عن “مثيلاتها” الديمقراطيات الغربية وكأنها من سلالة واستحقاقات الدولة القومية (أتفق معهم في المستوى الإجرائي بهذا الطرح)، ليتوصلوا إلى نتيجة هي أن اليهود الذين أنشؤوا الدولة جاؤوا من دول أوروبا الشرقية التي لم تكن ديمقراطية بالمعايير الأوروبية الغربيّة (…). وعندما تطورت الدراسات القومية، وبما أن الصهيونية هي القومية اليهودية بنظرهم قالوا إن منظريها تأثروا بنظريات القومية في أوروبا الشرقية وألمانيا (…). وحتى الآن بقي تفكير النخب اليهودية في برّ الأمان، أي بعيدًا عنهم كمجتمع استعماري ويهود ثقافتهم مُشبعة بثنائية: “شعب الله المختار”- والـ (goyem).
منذ أن عاد (نتنياهو) لرئاسة الحكومة قبل أكثر من عشر سنوات، اتخذ لنفسه منهجًا يُخلخل فيه الأسس الديمقراطية التي لا تنسجم مع معايير الديمقراطيات الأوروبية، كما تشهد النخب الإسرائيلية عليها. وتراوحت تفسيراتها بين السطحي العاجز القائل بمحاولة (نتنياهو) التهرّب من تحقيق الشرطة وقرار المستشار القضائي تقديمه للمحاكة الذي تتبنّاه النخب العربيّة؛ وبين تفسير أكثر وجاهة يُعزي ذلك كون إسرائيل قوة محتلة منذ سنة 1967 (لا يتحدثون عن احتلال سنة 1948). يمكن القول إن كلا التفسيريّْن لا يفسران أبدا هذه الظاهرة. لذا سأنطلق بتفسيري من نظرية “السيادة الشعبية” التي طرحها أحد منظري الرايخ الثالث، (كارل شميدث/ 1889- 1985).
انتسب (شميدث) في شبابه إلى الحزب النازي وأصبح أحد منظريه السياسيين. وعندما كان أستاذًا جامعيًّا أسهم مع زميله (هايدجر/ 1889- 1976) بإبعاد عدد كبير من الأساتذة اليهود من الجامعات الألمانية. وبعد هزيمة ألمانيا سنة 1945 اعتقل لمدة سنة واحدة ورغم التحقيق مع النازيين في (نيرنبرج) إلا أنه لم يقدم للمحاكمة.
بعدها استمر في الكتابة والتنظير ولم يتنازل عن نظرية “السيادة الشعبية” التي تنطلق من القول بوجود تناقض لا يمكن حلّه بين الليبرالية التي انتقدها بعنف، والديمقراطية بمؤسساتها المختلفة إلا “السيادة الشعبية”، المبدأ الذي يحتوي نسقًا مستقلًا عن النسق الليبرالي ومضادًا له، منطلقًا من الديمقراطية التي جوهرها “السيادة الشعبية” التي يجب أن تتجسد في قائد شعبي ديمقراطي يمثل المجتمع في وحدته وتجانسه، ويُحدث توافقًا شعبيًّا، ويمكنه اتخاذ الإجراءات الحاسمة لحماية الدولة والأمة، واصلاح الدمار الذي أحدثته الليبرالية، والأهم هو أن يُقيم الحدود الفاصلة بين الأمة- الدولة وبين العدو، لأن وجود العدو ضروري لتماسك الأمة والدولة، وليس كالليبرالية التي تشبه الشركة المُساهمة. هذا ما أورده في كتابه (Legality and Legitimacy). يجب التشديد في هذا السياق على وجود العدوّ لأنه ضروري لفهم طرحنا هذا.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما علاقة هذا بالسياسة التي ينتهجها (نتنياهو) ومؤيدوه في مفاصل إدارة الدولة؟
منذ وصول (نتنياهو) إلى سدّة الحكم في إسرائيل بصورة ديمقراطية وفقًا للمبادئ والمحددات التي أفرزها مجتمع المستعمرين اليهود في فلسطين، وهو يواصل عرض نفسه كقائد شعبي يسعى إلى ترميم الدمار الذي ألحقه من سبقوه في السلطة ولا فرق بين حكومات (المعراخ) التي استمرت حتى سنة 1979 أو الحكومات التي تلتها (ليكودية) أو حكومات وحدة وطنية.
لهذا الغرض اخترع إيران عدوًا يُضاف إلى العرب (…). من أجل هذا بدأ الهجوم على مؤسسات الدولة كأجهزة القضاء والشرطة والإعلام متهمًا إياها بمنعه من آداء مهامه كما يريد، وبأنها تحابي خصومه في الساحة السياسية. فأنتج لهذه المهام سياسيين وخبراء وإعلاميين متوسطي الكفاءة يجيدون الثرثرة وتكرار “دعوا الشعب يقرر” تحديدًا عندما كانت الشرطة تحقق معه في ملفات فساده الكثيرة وبعد أن قرر المستشار القضائي للحكومة تقديمه للمحاكمة. فـ “دعوا الشعب يقرر” معناه إلغاء كل المؤسسات التشريعية والتنفيذية وأجهزتها المختلفة وهو هدم لأسس الديموقراطية التي قام عليها الكيان. هذه الممارسات هي التعبير الأمين عن رفض (شميدث) للنظام الليبرالي- الديمقراطي، وتجسيد فكرة “السيادة الشعبيّة”.
للاطلاع على دراسة حول جماعة متوسطي الكفاءة، يمكن العودة إلى كتاب نظام التفاهة لـ(ألان دونو) الذي يشرح نشوء هذه الجماعات وخطورتها على المجتمعات.
من يقرأ نهج (نتنياهو) وممارساته والنظام الذي يعمل على إقامته سيصل إلى نتيجة مفادها أنه تبنى نظرية (كارل شميدث) كاملة. وأن العدو هو الآخر من تنظير (شميدث) واختراعه. إلا أن البحث في ملفات العقيدة والشريعة اليهودية التي عادة ما يُهملها فقهاء علوم إدارة الدولة يكشف لنا أن العدو عند (شميدث) هوالـgoy)) عند اليهودية والملازم لها بصورة جوهرانية، ولا يُمكن تخيّل وجودها بدونه.
من هنا يمكن الاعتقاد- ليس الجزم- أن (شميدث) كان متأثرًا بمبدأ الـ (goy). لكن يمكن الجزم أن ضرورة وجود “عدو” للأمة والدولة تعود جذورها إلى اليهودية فقط. سيردّ البعض بأن جميع الأمم والشعوب كان لها أعداء، إذن لماذا التركيز على اليهودية فقط؟- لأن اليهودية هي العقيدة/ الفكر الوحيد الذي اعتبر كل من يوجد خارج دائرتها هو (goy). ولا مثيل لهذا في عقائد الأديان وثقافات الشعوب والأمم والجماعات المختلفة.
ومن هنا نفهم أن عداء نهج (نتنياهو) ومن معه للعرب في فلسطين وخارجها مبدأ لا يمكن تجاوزه إلا إذا تحوّل اليهودي إلى لا يهودي يقرأ التناخ بصفته تراث وأساطير الشعوب التي عاش اليهود بين ظهرانيها، وأن نشيد الأنشاد ليس إلا أغاني إيروتيكية عند البدو. هذا المبدأ هو الذي يدفع (نتنياهو) وسائر السياسيين اليهود إلى احتقار العرب وما “الزُعبيز” و”أبو دربكّة” و”الدابّة” وأشباههم إلا كائنات وضيعة جدًا في هذه السلالة.