الانتفاضة بين بعدي الديمقراطية والعنف الثوري .. بقلم : أسامة خليفة  – باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات

#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية

 

 

 

– شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987-1993) علامة مضيئة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، انعطفت بالعملية النضالية بشكلها الأساسي من خارج الوطن المحتل إلى داخله، وفتحت معركة يومية مباشرة مع قوات الاحتلال، واكتسبت الانتفاضة الطابع الديمقراطي لاتساع المشاركة الشعبية في فعالياتها، بمقابل الصورة الفاشية القمعية للمحتلين الإسرائيليين، مما جعل نظرة الرأي العام العالمي نحو الثورة الفلسطينية تتغير لتصبح ثورة شعب بأكمله ضد الاحتلال، بعد أن كانت ثورة مجموعات مسلحة محدودة تقوم بعملية مسلحة هنا، وعملية مسلحة هناك، ولكن أوساطاً فلسطينية تخوفت على ديمقراطية الانتفاضة وجماهيريتها، وأرجعت انحسار المد الجماهيري في مرحلة من المراحل إلى لجوء البعض إلى العنف، فقد تم تقسيم الانتفاضة إلى ثلاث مراحل:

1- مرحلة التفجير والتدفق الجماهيري: وهي المرحلة التي شهدت معالم ثورة شعبية حقيقية، فانتشرت خلالها المسيرات الحاشدة والمظاهرات، الضخمة، التي انتقلت من حيث الشكل لاحقاً إلى موجة عصيانات عارمة شهدنا خلالها، استقالات رجال الشرطة والبلديات ومقاطعة العمل في اسرائيل أو التعامل معها، وأبرز معالم هده المرحلة أن المبادرة  كانت في يد الشعب، من ثم القيادة المحلية فالتنظيمات الفلسطينية.

2- انتقال زمام المبادرة:  بدأت هذه المرحلة في الظهور مع انتقال زمام المبادرة إلى سلطات الاحتلال.

3- المرحلة الخطرة: بدأت معالم هذه المرحلة في الظهور خلال الشهر الثامن للانتفاضة وتميزت باتجاهيين متعاكسيين، فمن جهة شهدت المناطق المحتلة تراجعاً في مستوى المقاومة الجماهيرية، ومن جهة أخرى شهدت تصعيداً في مستوى عمل التنظيمات والفئات الصغيرة النشطة، فارتفع معدل الهجوم بزجاجات المولوتوف الحارقة، ومعدل الاشتباكات التكتيكية وحرق الاحراش والغابات.

فهل يستحيل فعلاً مزاوجة النشاط الجماهيري المقاوم، مع نشاط المجموعات الثورية المحدودة؟. وهل يؤثر استخدام العنف الثوري على جماهيرية الانتفاضة وديمقراطيتها؟.

لابد من التأكد أولاً على رفض جميع الصيغ المجردة والمسبقة، وجميع الوصفات المذهبية الجامدة بخصوص النضال الجماهيري الذي يولد بلا انقطاع أساليب جديدة للدفاع والهجوم تزداد تنوعاً يوماً بعد يوم، وذلك بقدر ما تتطور الحركة، ويتقدم وعي الجماهير وتتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية، ولاسيما أن التغير في الأوضاع الاجتماعية يؤدي حتماً إلى ظهور أشكال للنضال لا يعرفها مناضلو الفترة المعنية.

فلا أحد يدعي عقلنة المستقبل، وخاصة في مجال حدث إبداعي كالانتفاضة، التي أوجدت أشكالاً نضالية من الاضرابات والامتناع عن العمل في المصانع الصهيونية، وبناء الاقتصاد المنزلي، وثورة الحجارة، وثورة السكاكين والعصيان المدني، ومسيرات العودة، تلك هي الخلفية الرئيسية للوحة الانتفاضة الشعبية، وعلى هذه الخلفية ترتسم ظاهرة الكفاح المسلح كشيء تابع، والسؤال المطروح: ما هي آثار هذه الوسيلة النضالية على ديمقراطية الانتفاضة؟

كانت انتفاضة الحجارة ذروة ما وصل إليه الفعل الثوري الفلسطيني المقاوم، حيث لخص تجارب و دروس المراحل النضالية السابقة واستفاد من الوعي السياسي ودرجة الانخراط الجماهيري، هذا التصادم المستمر المتواصل العابر للمراحل وللمحطات المتعددة يقود إلى فهم طبيعة القوى المحركة للفعل الثوري حيث تتضرر مصالح الفئات الشعبية الواسعة التي تدافع عن مصلحتها الحيوية والحقيقية في إنهاء الاحتلال، فأهم سمات الانتفاضة هي شمولية المشاركة الجماهيرية، حيث بشرت بديمقراطية شعبية ثورية لا تقوم على الشعارات اللفظية، أو فئة أو شريحة، بل تنحاز إلى التجربة الجماعية الواعية، مكرسة المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب، مطبقة بشكل خلّاق أشكالاً تنظيمية تسمح للجميع بالمشاركة، فعبّرت الانتفاضة عن تصادم وتناقض المصالح الوطنية، الفلسطينية الشاملة مع إجراءات سلطات الاحتلال الهادفة إلى الاستيلاء على الأرض وتهويدها، ونهب الاقتصاد الوطني بالسيطرة على موارده وثرواته.

تبدت جماهيرية المشاركة في امتداد الانتفاضة إلى كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، والسمة المميزة لهذا الامتداد هو تحقيق التواصل وإقامة الصلات النضالية بين مختلف المناطق، إذا لجأت قيادة الانتفاضة إلى تنظيم حملات إضراب وتظاهر واحتجاج وتضامن مع قرى أو مخيمات أو مدن تتعرض لقمع شديد من قبل سلطات الاحتلال في محاولة لتخفيف الضغط والحصار على تلك المنطقة، مما عزز الوحدة الوطنية وتماسك القوى الاجتماعية المحركة للانتفاضة على كل الصعد القطاعية والجماهيرية والجغرافية، فتضامن القوى الاجتماعية من عمال وفلاحين ومثقفين وطلاب وتجار ومهنيين وبرجوازية وطنية، أظهرت الصورة الحقيقية لمشاركة هذه الفئات من ناحية تطور المفهوم الجماهيري، وإدراك أهميته في العمل الثوري، حيث يتم الإسهام في الفعاليات اليومية وفق مهام آنية تتناسب مع المصالح الوطنية البعيدة المدى.

ترتبط ظاهرة الكفاح المسلح بحرب الأنصار الذي تخوضه مجموعات صغيرة من الأفراد القادرة على أداء مهمات قتالية ولا سيما من الشباب المدرب جيداً، بهدف قتل جنود وضباط جيش الاحتلال، وتدمير منشأته الحيوية، ويجري تقدير هذا النضال بأشكال مختلفة، فبعضهم يراه فوضوي وإرهابي، ولا سيما في أوساط الرأي العام الغربي، بينما يرى فيه بعض الفلسطينيين أنه لا مسؤول ويؤدي إلى إجراءات قمعية اسرائيلية بالغة التعسف ضد الشعب الأعزل، ويرى آخرون أنها ستؤدي إلى القضاء على الطابع الشعبي الديمقراطي للانتفاضة، ومن هنا جاءت مقولة الحفاظ على ديمقراطية الانتفاضة وبعدها الشعبي، فما المقصود بهذه الديمقراطية؟ هل هي شكل النضال السلمي القائم على تنظيم المسيرات وكتابة الشعارات الوطنية على الجدران، والحملات الإعلامية، لقد لجأت الحركات الديمقراطية إلى أكثر الوسائل اختلافاً، كي تحقق أهدافها، إن تاريخ الديمقراطية الفرنسية بين عامي(1789-1871) مكتوب بالدم وقد قاد ديمقراطيو أمريكا أكبر حرب أهلية عرفتها العصور كي يفرضوا شكل دولتهم.

وبالنسبة للفلسطينيين، ماذا يفعلون إذا كانت سلطات الاحتلال تواجه فعاليات الانتفاضة السلمية، برصاص القتل والإعدام في الساحات وترك الجريح ينزف حتى الموت؟. لم تجد الكثير من الحركات الشعبية التي تطلعت إلى الديمقراطية سوى طريق العنف الثوري للوصول إلى أهدافها ولئن كانت الديمقراطية قد اعتبرت تجسيداً لعدم اللجوء إلى العنف، فما ذلك إلا بسبب استبدال الديمقراطية مع نمط معين من أنماطها، هو النمط الديمقراطي الليبرالي وحتى في هذا، تمارس الديمقراطيات الليبرالية الغربية ازدواجية المعايير، في ديماغوجية واضحة حين تسمح باستخدام العنف في أوكرانيا ضد روسيا وتحرم ذلك على الفلسطينيين.

إن الثورة الفلسطينية كأحد العوامل الأساسية في استعادة الحق المسلوب وتحقيق الاستقلال، ارتبطت بشكل متين بالعنف، وكاد العنف أن يصبح مرادفاً للثورة، فنادراً جداً قيام ثورة دون عنف، حتى الهند ضد المحتل البريطاني في زمن المهاتما غاندي، وفي جنوب أفريقيا ومانديلا، مارست جماعات مسلحة العنف، وكله عنف مبرر ضد الاحتلال، والاحتلال وحده هو الذي يعد إرهاباً بحد ذاته باعتباره يُخضع الشعب الواقع تحت الاحتلال إلى سلطته بالسلاح والنار.

إن جوهر الثورة ليس العنف، إنما هو أحد جوانبها، وجوهرها يكمن في مضمونها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فالثورة هي تغيير شامل وانقلاب على القديم، والثورة الفلسطينية هي ثورة على الأشكال البالية اللإنسانية من العنصرية وممارسات الاستبداد الاسرائيلي والاحتلال بالقوة، وجوهر الثورة هو الفعل الذي يؤدي إلى استبدال الصهيونية العنصرية الاستبدادية بمجتمع فلسطيني حر مستقل وديمقراطي، ويعيش فيه كل الطوائف الدينية بمساواة في الحقوق والواجبات تتعاضد فيه القوى الاجتماعية، والأقليات الإثتية في ظل دولة ديمقراطية موحدة.

إن ترابط مفهومي العنف والثورة ناجم عن تشابك أسبابهما وأهدافهما، فانفجار العنف يتولد نتيجة رفض تناقضات الواقع القائم المختل، وما يسببه من استبداد فئة على أخرى، ليس كل عنف فوضوي، وهنا يلتقي العنف بالثورة  في أنهما يبتغيان إحداث تغييرات، وتبرز الحاجة الملحة للعنف في مسألة استعجال إجراء تحولات من قبل القوى الثورية، من جهة، وإصرار القوى المسيطرة، من جهة أخرى، على رفض التغيير والإبقاء على واقع القهر والبؤس، وفي هذه الحالة فإن انفجارات العنف لا تخلو من خصب غالباً ما تكون ضرورية لعملية الخلق، كما تشهد بذلك جدلية الثورات.

على حركات التحرر التي تتبنى العنف أن تدرك أبعاده وضروراته الزمانية والمكانية، من أجل التغيير الملائم، وفي الوقت الملائم، وفي ظروف الثورة الفلسطينية فإن الموقف الوطني يجب أن يرتكز على حقيقة أن الاحتلال الاسرائيلي لن يمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة سلمياً وبوسائل من هذا النسق الودي، فإذا كانت هذه هي الوسائل للضغط والظفر بالحقوق فستجد نفسها أمام حائط من التصلب والتعنت الديني الذي يزداد شراسة كما تؤكده انتخابات الكنيست.

في هذا المجال لابد من التمييز بين العنف الثوري والعنق الفوضوي، الأول: كونه يهدف إلى إزالة عوائق تطور التاريخ باتجاه تحقيق الإنسان حريته وأدميته، والثاني: كونه يهدف إلى التخريب وحسب، أي العنف لأجل العنف والثورة لأجل الثورة، فلا يحمل العنف في طياته سوى الطابع الانتقامي، ووفق هذا السياق يلقى العنف إدانة أو تبرير، وفق ما يسعى إليه من دفع حركة التاريخ أو أعاقتها، فالعنصرية الصهيونية لا شك أنها من مخلفات الماضي وينبغي أن ترمي إلى مزبلة التاريخ.

يرتبط العنف بالتغيير في اتجاهيين:

– فإما أن يستخدم لمنع حدوث أي تغيير، وفي هذه الحالة، فإنه يخدم السلطات المحافظة والمعيقة لحركة التاريخ، فتلجأ السلطات إلى استخدام وسائل القمع البوليسي، مستندة إلى تشريعاتها التي تعزز مصالحها، أو أن يستخدم العنف لإجراء تغييرات في التركيبة غير المنطقية للبناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويخدم العنف في هذه الحالة، برنامج القوى الثورية، إن مفهوم العنف يعني مجمل أشكال الضغوط التي تمارسها فئة على فئة اجتماعية أخرى مثل الحروب والاعتداءات والقتل والقمع البوليسي، وبعض أشكال السيطرة الاقتصادية، إلا أن البعض يأخذ بمفهوم العنف الضيق، ويحصره في الأذى الجسدي، أو مجرد التهديد بإنزاله، من خلال أشكال الضغط والسيطرة شريطة أن تصل إلى حد المس أو التهديد بمس الأفراد أو الجماعات جسدياً، والبعض يدعو عنفاً كل مبادرة تتدخل بصورة خطرة في حرية الآخر، وتحاول أن تحرمه حرية التفكير والرأي، وتنتهي خصوصاً بتحويل الآخر إلى وسيلة وأداة دون أن يعامل كعضو حر وكفؤ كما في قانون الوطنية: إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي .

وبكل هذه المفاهيم للعنف نجد أن اسرائيل تمارسها بأشد أشكالها قساوة وشراسة، وتغطيها وسائل الإعلام بحرفية، فقد استخدمت قوى القمع الاسرائيلي ضد المنتفضين: تكسير العظام وإلحاق الأذى الجسدي، والقتل العمد بالرصاص الحي أو المطاطي، فهل يقابل العنف بالحوار والكلام المعسول والحركة السلمية، لكي تبدو حضارية كادعاء للإنسان المتحضر؟. وهل بهذا تنتهي السيطرة والتسلط على الإرادة الوطنية، ونيل الحرية والاستقلال؟. ما من تحول ممكن دون خطر نشوب العنف، لكن ليس بصورة مطلقة، فضرورة التغيير هي التي تحدد خطر انفجار العنف، فالقوى الاجتماعية التي كانت مكبلة تشعر بأنها بلغت من القوة ومن تأييد قطاع هام من مجموع الهيئة الاجتماعية، عند هذا يبلغ المجتمع مرحلة الثورة، ولا بد أن تتغير أسس التسلط.

استطاع الإعلام الغربي أن يربط الديمقراطية بالدولة البرجوازية وبالاقتراع العام وبالانتخابات، وأن يربطها أيضاً بالتكتيك الديمقراطي أي الاصلاح السلمي القائم على إقناع غالبية الشعب بأهمية التغيرات الطفيفة، ونبذ سائر محاولات العنف الداعية إلى التغيير الجذري، وهذا النجاح قد تسبب به ليس فقط قوة الإعلام الغربي بل وتراجع القوى الاشتراكية التي كانت تربط الديمقراطية بحكم المجتمع من قبل البروليتاريا والفلاحين باعتبارهم ديمقراطيتهم تمثل ديمقراطية الأكثرية لدى كل شعوب العالم، وهذه ليست ديمقراطية بحتة بل كما أسماها لينين( الديمقراطية الديكتاتورية) في هذا المناخ الإعلامي الغربي المختل، قدر بعضهم أشكال النضال الذي تخوضه انتفاضات فلسطين بأنه فوضوي وإرهابي، وخاصة العمل المسلح أو الدهس أو استخدام السكاكين وحتى رمي الحجارة، وتعاموا عن أدوات القمع الاسرائيلية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، والمدهش أن يقتنع بعض الفلسطينيين والعرب بأن العمليات الفدائية الفلسطينية يقوم بها أفراد منفصلون عن الجماهير، وتفسد معنوياتهم وتصرف عن الشعب عطف الرأي العام العالمي، من هنا أهمية المراجعة النقدية للعلاقة بين النضال المسلح والانتفاضة الجماهيرية، ونموذجها المجرب، في غزة، تسلح المقاومة وصواريخها، تزامناً مع مسيرات العودة بطابعها الجماهيري الواسع.

إن ما يمنع التقدير الخاطئ وتهمة الإرهاب هو التخطيط المحكم لربط النضال المسلح بالانتفاضة الجماهيرية، فيؤدي إلى اتساع المجموعات المسلحة كلما اتسعت الانتفاضة الجماهيرية، على عكس ما افترضه البعض، وهذا ليس بالمستحيل، فربط العمل المسلح بالوضع الانتفاضي العام، يقلل من التشكيك بمثل هذه الارهابية، إن ما يشوش الحركة الجماهيرية ليست عمليات الأنصار، بل ضعف حزب عاجز أن يأخذ بيده هذه العمليات… فإذا كنا عاجزين عن فهم الظروف التاريخية التي تولد هذه النضال، فإننا عاجزون أيضاً عن شل تأثير جوانبه السلبية، ولكن النضال الجماهيري والكفاح المسلح رهن بنجاح التنظيم في ربط الكفاح المسلح بالوسائل الأخرى، ربطاً منسقاً مدروساً، ونداءات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة تظهر أنها قد اهتمت بالفعاليات الجماهيرية أساساً ولكن عندما تتوفر لها بنية تنظيمية تحتية ملائمة للأعمال الثورية النوعية، دعت إلى قتل اسرائيلي مقابل كل فلسطيني يقتل، وهو ما وضع التنفيذ العملي بعد مجزرة المسجد الأقصى (باحة المسجد الاقصى)، بعد أن ظهرت القوات الضاربة كلجنة هامة بين لجان الانتفاضة، تتكون كل مجموعة من القوات الضاربة من ثلاثة إلى أربع أعضاء، وطبقاً لذلك فهي مجموعات صغيرة ذات مهمات قتالية بسيطة آخذة في التطور والانتقال طبقاً للمرحلة التي تعيشها.

أما الرأي الآخر الذي يتخوف على جماهير الانتفاضة من أعمال تعسفية بالغة الشدة في حال استخدام وسيلة الكفاح المسلح، فإنها لا تجد لنفسها تبريراً، لأن العدو وقواته وجيشه ومستوطنيه يقومون بأشرس حملة قمعية لإنهاء الانتفاضة، فقد ارتكبت سلطات الاحتلال المجازر الجماعية، ومارست أسلوب العقاب الجماعي، ولجأت إلى الحصار والتضييق الاقتصادي ومنع التجول، والإبعاد السياسي، وتكسير العظام، وتعذيب المعتقلين، والاعتقال الإداري، واعتقال الأطفال.. فماذا تبقى؟ هذه الإجراءات القمعية كانت قبل الانتفاضة، وازدادت شراسة مع تصاعدها، رغم ذلك أخذت الأعمال العنيفة تلقي قبولاً، والأفراد والمجموعات الذين يفعلون ذلك غير آبهين بنتائج ما يقدمون عليه ولو كان إعداماً ميدانياً أو مطاردة تنتهي بالاستشهاد، في هذا المجال تذكر الدوائر الاسرائيلية أنها سجلت ارتفاعاً ملحوظاً من 1/ 4/1985 إلى 1/4/1986 في ما وصفته بأعمال التخريب من 374عملية إلى 569 عملية أي بزيارة قدرها 52% خلال عام، كما أشارت إحصاءات اسرائيلية إلى ظاهرة جديدة نسبياً تتمثل في قتل الجنود الاسرائيليين الذين يتجولون بمفردهم إذا ارتفعت محاولات قتلهم من حادثة واحدة فقط في عامي 1984/1985 إلى ثلاث وعشرين حادثة في عامي 1985-1986، ولكن هذه الحوادث تضاعفت تضاعفاً ملحوظاً بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية فحسب معلومات معاريف (14-7-1989) فإن الجماهير الفلسطينية قامت بتنفيذ ما مجموعه (أربعة وأربعون ألفاً  وثلاثمئة وعشرة ) أعمال نضالية مختلفة … منها 34912( عملاً نضالياً) في الضفة الفلسطينية و 9398 في قطاع غزة خلال الفترة الممتدة من 9/12/1987 إلى 9/7/1989.

هناك من يقول بحساسية الرأي العام العالمي تجاه العنف، مع العلم أن التعاطف الدولي مع جماهير الانتفاضة التي عانت من النازية الصهيونية لم يتحول إلى سياسة رسمية فاعلة وضاغطة لتحقيق مطالب الانتفاضة، بل على العكس شهدت سنوات الانتفاضة إعادة كثير من الدول للعلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل ومنها دول اشتراكية وأفريقية كانت قد قطعت هذه العلاقات سابقاً، ولم تتوقف الدول الاستعمارية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية مساعداتها العسكرية والمالية الضخمة لإسرائيل.

لذلك علينا أن نرتقي بمستوى نضالنا لننتزع الاعتراف بحقوقنا الوطنية انتزاعاً، ونثير في العالم رغبة أكيدة في سلام عادل.

المطروح ليس التوجه إلى شكل نضالي دون غيره، وإن كانت الآراء والاتجاه العام يحبذ الشكل الديمقراطي للانتفاضة الذي يسمح لفئات واسعة بالمشاركة في فعالياتها، ويستبعد البعض تماماً في هذه المرحلة حمل السلاح لاسيما في الضفة الغربية، والجدل هنا لا يطال وسائلنا وأدواتنا النضالية بل يدور حول وسائل العدو القمعية وإنكاره الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، فلنفترض أن الأشكال السلمية أو أشكال النضال الجارية لا تحقق أهدافنا، فهل تستقيم الأمور باستبعاد إمكانية استخدام وسائل نضالية أخرى أرقى وأكثر نجاعة في تحقيق المكاسب الوطنية؟. فعندما تكون هذه الوسيلة أو تلك منسقة مع الوسائل الأخرى ومرتبطة بالوضع الانتفاضي العام، عند ذاك تصبح الانتفاضة شأناً ديمقراطياً بكل وسائلها المتاحة بما فيها العنف الثوري.

المراجع:

–  الانتفاضة الفلسطينية: الهيكل التنظيمي وأساليب العمل

–  الانتفاضة ثورة كانون: إنجازات وآفاق

–  الديمقراطية الأوروبية

–  المجتمع والعنف